إيماض أول: الغزاة المنكسرين
أن لا تتصالح مع الاسكندرية، و متاهات وجوهها، أن يستقبلك جوها المتوسطي بلا مصافحة، أن تنظر إلى بحرها المتراجع مع الغزاة فلا ترى سوى الحيرة، حيرةِ رفاقك الخارجين من جلودهم.
قاتلوا خيبتهم بألسنة مسنونةٍ حين أصبحوا طرائد لطمع سائق سيارة أجرةٍ يربي صغاره في فردوس الصدق و نعيم الأمانة، بينما يعيش هو في كذب الجحيم.
صغاره المتسخون بالضجر و المقامرون بأعمارهم…
أن لا تفتح لك المدينة أبوابها، فتقتحمُ أسوارها العنيدة
سلّمك الحيّ أجسادٌ بشرية: قدم على كتف، و كتف تحت قدم،
تتسلق الخوف، و القلقُ راكبٌ على ظهرك..
أن يحدث كلُّ ذاك الأسى دفعةً واحدة ودون سابق إصرار و ترصد،ثم تنفيكم المدينة قبل أن تعيثوا فيها حياة أو تبعثوا فيها فساداً فتلك عين المغامرة.
رفاقي: لماذا خرجتم مهزومين قبل أن تبدأ الجولة الأولى من الليل، وأنا تبعتكم منكسرا، منكسرا بالخذلان ولست منهزماً. لقد أرادت عزيمتي أن أنشق عليكمصارخةً:
( أصل متأخرة إلى الجحيم لكني لا أخرج منها أبداً أبداً)
أفلحتُ في لجم روحي الثائرة، فاخترتُ طريق الجبليّ المفروش بصخور الشهامة، و صمت الشعاب.
فتبعتكم و نكصت على عقبي منكسراً، و مفكراً بكل خيباتي الصغيرة.
يا رفاقي:
هل خذلتكم بجنوحي إلى عالم الفوضى الذي جئت منه؟
يا آخر فرسان الأهرامات
تركتم خيولكم في تلال الموت
سروجها معلقة
تنتظر أن تمتطيها ضحكات جديدة
كيف ابتلعتنا المغامرة الغضة.
لقد خسرتنا المدينة
ليلها و بحرها
خمرها
تاريخها و شحاذوها
و كل ما كان سيحدث لنا لو أننا لم نغادرها طائعين
لقد خسرتنا المدينة
و كسبنا توحدنا منثورين في ذاكرتها.
إيماض ثانٍ: شرفة النهايات
أنت وحبيبتُك تطلّان ( معاً ) على زرقة البحر المتوسط، بينما تطلّ عليك ( وحدك ) غيومٌ مسافرةٌ راكضةٌ كالحنين. حبيبتك معك لكنها غير متعيّنة الوجود. أنت في كبد العزلة، وحبيبتك في كبدك. يكاد النهار ينقضي هنا. سرب نوارسٍ يطير باتجاه الشمس الهابطة إلى البحر…
يا للمصادفة!
بقيت لديك لفافة تبغٍ واحدة فقط، ولم يبق في علبة الكبريت سوى عود واحد!!
السكائر والكبريت يغادران إلى رئتيك معاً.
بخفّة تنظر إلى أجساد السائرين على الشاطئ بينما يفترسك بتشفٍّ مشهدُ البحر الاسكندراني. كم أنت حاقدٌ على هذا الجمال الذي تستمتع به وحدك، تستمتع به حتى البكاء، وتبكي عليه حتى تختنق بالوحدة والضجر والذاكرة. لكن الذاكرة ماكرة، فتُحضر إليك حبيبتك، ( حين أردت اقتحام المدينة معها في أحد الأصياف، حينها تمنّعت عليكما أسوار الاسكندرية…)
الذاكرة ماكرة، و الخيال قوّاد: ( يأتي بها إلى سريرك الذي أصبح الآن أوسع، ونبتت حوله ورودٌ و شموعٌ عطريّة…)
تجد نفسك على السرير حين تقاطع أوهامك باتصال عشوائي: ” ألو.. خدمة الغرف.. لو سمحت أريد فرشاة أسنان ومعجون..” عقلك مبرمج على الاستعداد لأحوال الليل وأمكنته التي تنتظر تشردك.
تعود إلى حبيبتك.. محاولاً أن تتذكر أين تركتها أو أين تركت خيالك ينتظرك ليقودك إليها…
تعود إلى الشرفة. تكتشف – مصدوماً- أن كلّ شيء انتهى: السكائر، الكبريت، الشمس، البحر، الغيوم، النوارس… ( لقد هبط الليل وسرق المشهد) كلّ شيء انتهى. هاوية الشرفة تقترب منك. طرقات الباب تنقذك من تلك الشرفة المزدحمة بالنهايات. تفتح الباب. يناولك عامل الغرف فرشاتين و معجونين للأسنان. تبتسم إليه ببلاهة صادقة. وتتجمّد في فمك الكلمات:( هل كان يتلصص على خيالك؟).
__________________________