الشاعر الكبير سيف الرحبي “غارات الزمن، وموجة من رضا وحنان”
غارات الزمن،
وموجة من رضا وحنان*
سيف الرحبي
حين جاءته الهزائم والانهيارات
تترى من كل جهةٍ وصوب..
خاطبها قائلاً:
مالكِ ومالي
(أنا الميت) حتى قبل أن
تولدي في الزمان
***
أيها الرجل المدفوع على عَربة
المُقعَدين
في أعماقي حشود مثلك
تحلم بالخروج إلى الهواء الطلق
والحريّة
***
يتعثّر
مُغرماً بنفسه (بنفسها)
(نرسيس محدِّقاً في صورته…)
ذاك الذاهب إلى حتفه
عبر ولائم المرايا والوجوه..
***
يشنُّ الزمن غاراته دائما، لا تكاد تهدأ هذه الغارات، في النوم واليقظة، في لهاث اللذةِ والجري نحو اللاشيء وفي المنامات.. كل شيء يذكر بالزمن، وعلاماتِه وتضاريسه، تجاعيد النسر تذكر باقتراب شيخوخته حين يحدق فيه فرخُه وهما يستريحان على قمّة أو هضَبة.. كل شيء يذكر بهذا العصيّ على التعريف.. يقصف أعمار البشر والشجر، ذلك النخلُ الذي لم يعد يستطيع مواجهة الريح فيحدودب وينحني حتى الانكسار النهائي..
الزمن، الزمن، كل شيء يذكر به وبسطوته العادلة، ففي المحصلة الأخيرة الكل واقع تحت هذه الهيمنة المراوغة والشرسة وهذه السطوة التي يتجدّد عنفوانها وحيويتها باستمرار، كل شيء يذكر به، الأماكن، وجوه البشر.. آه كم كانت هذه الأماكن، هذه البيوت، ضاجّة بالأحبة والحيوات التي طواها الغياب تحت جناحه المعتم، كم كانت هذه الأشجار مورقة تعبرها الفصول ونرى في مراياها وجوهنا المتدفقة بالحياة، هذه السهول وتلك الجبال التي تتسلقها الآزال كالوعول الشبِقة..
يشن الزمن غاراته في اليقظة والنوم، في الأحلام حين نغرق في مياهها المضطربة بالوحدة والأزمنة، دوماً نجد تلك الوجوه التي طواها الغياب والنسيان، في مكان ما على نحو من صحو وغيم يوشك أن يكون مظلماً، نجري باتجاهها لكن ما أن نقترب حتى تتلاشى في الغيم والضباب.. تلك المدن والطرقات التي لا تفضي إلى شيء، تمضي فيها هائما من غير هدف، ودائما هناك البحث عن المنزل الافتراضي، تمضي نحوه لكن ما ان تقترب منه حتى تكتشف أنك أضعت المفاتيح.. تبقى هكذا هائما في الطرقات والأماكن التي لا يدل فيها الغريبُ الغريبَ ولا يلقي حتى إيماءة تحية نحوه.. لكن بضربة الحلم الخاطفة، تعثر على المفاتيح في زقاق ما، تركض جذِلاً نحو المنزل، لكن الطرق لا تقودك اليه، تعثر ربما على مكان، على ما يشبه منزل، الحلم والواقع، لكنه ليس هو يقينا، مرتبكاً تتعثر ممعنا في الغرق والتيه.. الزمن الزمن .. مركبة الموت السريعة..
***
الى كنوت أوديجارد
غبار هي الكائنات، منه بدأت، وإليه تصير، وأعمالها جميعها, مجبولةٌ من الغبار، ولو اتخذت مظاهر البذخ والصلابة.
الغبار الغبار
الهباء الهباء
في المسيرة الحزينة، نعفّر وجوه بعضنا وأرواحنا بالوحل والغبار والافتراس.. (الحيوانات أقل قسوة بالطبع) تتبع غرائزها في المنحى الضيّق لوادي الطرائد والفرائس… حاجتها البيولوجيّة، ومن ثم الصمت والسكون والسفاد، البشر يذهبون بعيدا في هتك حرمة الغبار، السيّد صانع الأرومة والمصير، بعيداً يذهبون في التعفير والافتراس بالكلمات والأسلحة المهيبة، التي تنتمي في نهاية المطاف إلى الأرومة نفسها، أرومة الهباء والغبار والبراز…
لا شيء يدثر عري هذا المسكين في هذا الاسطبل الدموي الشاسع في الصحراء المصنوعة من شقاء وغبار، ولا حتى ورقة تسقط من شجرة ميتة، الورقة الأخيرة من الشجرة التي خضّتها الرياح العاتية والجفاف.
***
لا أعرف ماذا يخبئ هذا المساء في هذه المدينة، عدا الحزن والكآبة… أتطلع في وجوه الغرباء والسياح المعفرة بالوحل والغبار والمازوت، في جذوع أشجار شاختْ ونساء يتخبطن في عنف ظلمةٍ مريعة.. لا أعرف ماذا يخبئ لي هذا المساء، بعد فراق (ناصر وعزان) بالأمس مرّا على مكتبي، كانت صورهم تعلو رفوف الكتب، ضحكا من فرط المفاجأة، كان الفرح الناضح كغناء نبع جبلي في الوجوه البريئة، يغمر الكون بموجة من رضا وحنان.. وكانت رسوماتهما تعلو إطار الصور حديقةً من الفوضى والورود في تفتحها الصباحي الأول.. أشار (ناصر) أن أرفع صورته إلى أعلى رف في المكتبة، ففعلتُ، كان وجودها أجمل هكذا. وعزان يتشعبط على إفريز النافذة، بصخب يحيي العصافير المرفرفة والغيوم الموشكة على المطر في سماء عُمان..
لا أعرف ماذا يخبئ المساء وكذلك الصباح والليل بعيداً عنكما في هذا الصقع البعيد..
***
حين يرحل المرء عن من يحب، من منبذه البعيد، بلهفة، يسأل وبكل الوسائل الكثيرة المتاحة للتواصل الأثيري (كيف أحوالكم، هل الجميع بخير، أنا بخير والحمدلله، قريبا سأكون معكم)، كذلك حتى في الحروب ، بوثوقية يسأل ولهفة، وهو لا يعرف أو يتظاهر بعدم المعرفة، بما يخبئه القدر العاتي كإعصار غامض ينفجر في أي لحظة ومكان، ما تخبئه العناية التي تنقلب إلى انتقام يطيح برؤوس الجميع، يبعثر الأحبة أشلاء وغباراً. هذه العناية التي صُنع الكائن على صورتها من قسوة وخيانة ونزوع أصلي إلى المحو والافتراس..
أرى أينما رحلتُ حيوات طواها النسيان، أحبةً غيّبهم الموت… وكارثة تجعل الأجنّة عالقة في أرحام الأمهات الدامية.. فلا أرى إلا الحقيقة ساطعةً في برزخ المغيب.
***
كفيّ أيتها المرأة عن ترجيعك التبشيري الذي يمزق أكثر الحيوانات إذعاناً وطمأنينة.. كفّي عن ترديدك الدائم:
(الأمور طيبة… كل شيء على ما يرام)
الأمور طيبة يرددها «الخليجيون» كثيرا، بمناسبة ومن غيرها… كفي أكرمينا بصمتك المفقود/ فالأمور لم تكن كذلك في يوم من الأيام ولن تكون.
***
نحن الذين وُجدنا على هذه الأرض، لنوفي نذوراً قطعتها الآلهة على نفسها، بعقاب مخلوقاتها.. أين منها، عقاب(بروميثوس) سارق نار الآلهة الاغريقيّة وسرِّها الحصين، وهو مصلوب على صخرة في جبال القفقاس الذي ما فتئ (الرخ) ينهش منه الكبدَ والأحشاء، على مدار الأحقاب.
وإذ يشرف على النهاية ويلوح خيط فجر الموت المخلّص، يتجدد كبدُه ويكون أكثر نضارةً وحيويّة لتشغيل دورات العذاب الأولى .. كما تتجدّد جلود العصاة في الجحيم ليعيشوا دورات الألم والتنكيل التي لا تملّ ولا تكلّ من صراخ الضحايا وأنين المنكوبين، وتقول هل من مزيد..؟
-
من نص طويل شكل افتتاحية مجلة نزوى في عددها القادم.