ناقش الجاحظ في كتابه ” الحيوان” قضية عقلية مهمة وهي ” الشك واليقين” حيث تناول الموضوع بالبحث جامعا الآراء المتضاربة فيه ليعرض أمام عقله الفكرة ونقيضها ويدافع عن كل منهما ” أي الفكرتين المتناقضتين ” دفاعا يوهم القارئ أنها هي الفكرة التي يتبناها لنفسه لكن سرعان ما يظهر الحرارة نفسها في الدفاع عن الفكرة النقيضة فهو يكتب في الشيء وضده بدرجة واحدة من القوة.ولاشك بأن الجاحظ كان يتعمد ذلك ليعطي القارئ والمتلقي الحرية في اختيار الفكرة التي يقتنع بها بعد قراءته للدفاع.ويرتبط هذا الموضوع الذي ناقشه الجاحظ بموضوع شائك نلحظه في وقتنا هذا حيث تصلنا الكثير من الأخبار المتنوعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وينقسم الناس إزاءها ما بين مصدق ومكذب ومتحرٍ لمصداقيتها وغير مهتم بها.كلٌ حسب نظرته لهذه الوسائل وما يراه فيها من بؤر للشائعات أو وسيلة لتناقل الأخبار بسرعة ، مما يولد عنه رؤى مختلفة وقراءات متعددة للخبر أو القضية المطروحة في مشهد واضح أنه يفتقر للنقد البناء و التحري الجيد ويغلب عليه اليقين ويقل فيه الشك. إذ يصدق الأغلب كل ما يصل إليهم ويبادرون إلى إعادة إرسال الخبر ويسهمون بذلك في نشره وتوسيع رقعة وصوله، ويتم ذلك بعيدا عن البحث والتحري في مصداقية الخبر ومعرفة حقيقته، في وقت تبتعد فيه المصادر الحقيقية لهذا الخبر عن الساحة تاركة المجال لكل من أراد أن يدلو بدلوه سواء كان هذا الإدلاء ” غثا” أو ” سمينا” .
وسط هذه ” المعمعة” يضيع كل من يريد الحقيقة فالخبر أمامه ولكن لا يوجد من يؤكده أو ينفيه ليجد نفسه سائحا مع طرف دون آخر ليصل إلى طريق الحيرة والريبة وأحيانا تصديق الأكذوبة.
ولا شك بأن هذا الأمر يحتاج لوقفات بدءا من كاتب الخبر انتقالا إلى متلقيه وانتهاء بمن يعرف حقيقته ولا يتكلم. فحري بنا أن نعتمد أسلوب الجاحظ ومنطقه بحيث نشك في المعلومة ثم نتدرج حتى نصل إلى اليقين وأن لا نبادر إلى إرسالها ونشرها إلا بعد التيقن التام بصحتها وعدم إضافة ” البهارات” عليها. وحري بالمتلقي أن يشك قليلا قبل تصديق الخبر وأن ينسج في نفسه خيوطا لتتبع حقيقة ما قرأه قبل تصديقه وإعادة نشره وأخيرا حري بمصدر المعلومة الذي يعرف حقيقة الخبر ولا يتكلم عنه أن يبادر إلى إظهار مصداقيته وفتح قنوات للشفافية تكون عونا على الصدق وعينا على الحقيقة.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC