إن المعنى الحقيقي للحداثة لا ينطلق من محاولة التجريب في بنية القصيدة و تعدد أشكالها ، بل من خلال وجود فلسفة روحية عميقة في الذات الشاعرة نحو العالم كاملا ، ذلك الصدام المستمر بين الشاعر والأشياء الذي يفضي إلى توتر شديد يقود إلى حداثة الروح ، التجربة المرتبطة باللازمان واللامكان ، حيث الانفلات المطلق الغامض في تأسيس تجربة مغايرة عن التجارب الأخرى المنبثقة من التصور الجمعي ، فالحداثة لا تعني مطلقا تجاوز الشكل العروضي والذهاب إلى قصيدة النثر ، لأن الأمر غير مرتبط بالصورة الخارجية للقصيدة وإنما متعلق بتكوين ظاهرة شعرية حاضرة في تحولات الكائن و أبعاده المختلفة . وعند تأمل تجربة الشاعر سماء عيسى ، سنرى أننا حيال حداثة مختلفة في تجليها الروحي ، إننا أمام رؤيا مشرعة للأبد ، غير قابلة للتوقف الزمني أو المكاني ، قادمة من فلسفة الماضي إلى حرية المجهول ، من صور الوعي و الواقع إلى رموز المستقبل الآتي ، المعاني المكثفة حول الحياة بكل صفاتها و تناقضاتها
: ( تركنا أبواب منازلنا مفتوحة على الرمال أطفالنا اختفوا بهاوهم يلهون أخذتهم كائنات الصحراء وما عادوا إلينا )1
إنه الشعر الذي يقدم عمق الحاضر الإنساني عبر شعرية التأمل و حساسية الحدث و آلام الفكر ، التجربة المرتكزة على فكرة اللاحدود ، العلامات المفتوحة للبعيد وهي فكرة الحداثة أساسا ، القائمة على مطلق الإشارات في تفسير صور الحدث ، أي عدم التقيد بصورة واحدة عند تحليل المعنى ، بل إيجاد بيئة خصبة لذاكرة الكون التي تمثل حضور الكائن و رؤاه :
( لكنه الحب عندما أشرق كزورق الشمس الغائب الراحل في السديم لكنه العدم ما ينتظرنا جميعا ونحن نبحرفي السماءبحثا عنكأيها المعشوق الجميل) 2
هذا الاشتغال العميق المتصل دائما بأسئلة الحلم ، تلك الأسئلة المنطلقة من احتراق عميق في باطن الشاعر وآفاقه ، تترجم فلسفة حداثة سماء عيسى ، الحداثة القائمة على انفلات الحلم ، حيث كلما وصلنا إلى دلالة ما ، تراءت لنا دلالات أخرى يمكن تحقيقها عبر الأزمنة المتصاعدة ، من خلال إزاحة الواقع البصري و الولوج إلى أحلام قابلة للحدث ، ذات حقل دلالي متحرك ، أي أن تلك الأحلام في إطار المشهد التخيلي القابل للفعل ومن هنا كانت تجربة الشاعر مختلفة في إتاحة الذهاب إلى أقاصي الحلم الإنساني ، بمختلف تحولاته و إمكاناته :
( دمعة وحيدة حين سقطت من جدار الليل أينعت أرواح صغيرة هادئة 3
هكذا تجربة النمو الروحي الذي يمثل أساسا مرايا القصيدة الحداثية الخارجة من نطاق الرؤية الواحدة إلى فضاءات و دلالات لا يمكن حصرها وهنا مكمن متعة النص الحداثي الرؤيوي الذي يخلق عالما مفتوحا من التأويل والتحليل في إطار أنساق المعنى والفضاءات المتشابهة .
—————————- 1/ مقطع من مجموعة درب التبانة 2/ مقطع من مجموعة الجبل البعيد 3/ مقطع من مجموعة أغنية حب إلى ليلى فخرو إسحاق الخنجري
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC