مخاتلة البلاغة للنقد الحديث
تغريبة التناص نموذجا
شكل الموروث البلاغي والنقدي عائقا مركبا حال دون التمثل الواعي للنقد الحديث وما يستند إليه من فلسفة وما ينبثق عنه من مفاهيم أعادت تشكيل الوعي بالوجود والإنسان واللغة والتاريخ ومختلف جوانب الحياة.
وإذا كان هذا الموروث النقدي والبلاغي بما يحمله من قيم تتصل بمنطلقاته المنطقية تارة، وتارة أخرى بالدور الذي نهض به في خدمة التراث العربي والنص القرآني قد شكل قناعة لطائفة من الدارسين والباحثين فأوقفوا جهودهم على تمثل هذا الموروث واستنساخ نصوصه والعمل بمقتضى مناهجه فحالوا بذلك بين أنفسهم ومن اتبع سبيلهم وبين الدرس النقدي الحديث، فإن الدور الأكثر خطورة لهذا الموروث النقدي والبلاغي يبدو لنا في فيما شكله هذا الموروث من بنية للعقل العربي حددت آليات تفكيره وسبل تعاطيه للثقافة الجديدة وعلى رأسها الدرس النقدي الحديث الذي أوشك أن ينتهي به الأمر إلى أن يكون تركيبا هجينا مذبذبا بين فكر قديم يتوهمون أنهم تجاوزوه وفكر حديث يعتقدون أنهم استوعبوه فسقطوا بذلك بين كرسيين تلوح فيما ينشرونه من مطوياتهم أشباح مصطلحات ومعالم وأعلام تدور على غير ما هي عليه وتسمى بغير ما سميت به ولعل أولئك الذين تشبثوا بقديمهم مخلصين له أكثر صدقا من هؤلاء الذين فنتهوا إلى النهاية التي حذر منها الدكتور لطفي عبد البديع قبل أربعين عاما يوم كنا نتلمس لخطواتنا موقعا على الطريـق الذي قـادنا إلى ما نحن عليه اليـوم وذلك حين قـال في مقدمة كتابـه ” التركيب اللغوي للأدب..بحث في فلسفة اللغة والاستاطيقا” : “… والعلم تحقيق لا تلفيق كتلفيق حاطب الليل، يخالف بين عبد القاهر وكروتشه ، أو بينه وبين سوسير، فيضع قبعة هذا على رأس ذاك ، ويثبت عمامة ذاك على رأس هذا ن ويقول للأول كن كروتشه وللثاني كن عبد القاهر…وتحقيق لا كتحقيق الذين يسودون صحائف بيضاء كانت من قبل صفراء، أو يتولونها بالتنقيح والتهذيب والتيسير وكل ما يدخل في هذا الباب من مسكنات توضع في قراطيس تبدي شيئا وتخفي أشياء..
ولعل مرد هذا الخلط غياب الدرس الفلسفي الذي كان من شأنه أن يشكل لنا القاعدة التي تمكنا من تمييز الفروع انطلاقا من التمايز بين الأصول ومرتكزاتها الفلسفية التي تستند إليها وتحول بذلك بيننا وبين ما اسماه الدكتور لطفي عبد البديع تلفيق حاطب الليل، وغياب الدرس الفلسفي غياب مزدوج يشكل الجهل بالفلسفة الحديثة جانبا منه ويشكل الجانب الآخر الجهل بالفلسفة القديمة وإذا كانت الخطفة التي خطفناها من النقد الحديث لم تزودنا بغير مصطلحات نقدية ولغوبة تستحضر أشباحا من البنيوية والحداثة والشعرية والتفكيك مفصولة عما تستند عليه من فلسفات كبرى تبدأ من الثورة الكوبرنيكية ولا تكاد تنتهي بجدل ماركس وظاهرية هوسيرل وإرجاء المعنى عند دريدا فإن الوعي بالبلاغة لم يكد يتجاوز عتبات أبواب المعاني والبيان والبديع وما تتفتق عنه من وصل وفصل وحقيقة ومجاز وسجع وجناس دون التمعن فيما تستند إليه تلك العتبات من منطق أرسطي ينبني على مقولات الهوية والزمان والمكان وما إليها من المقولات والكليات .
والذين يتعلقون بالنظريات والمناهج النقدية الحديثة ويوفقون بينها وبين ما يرونه مشابها لها من التراث النقدي والبلاغي يغيب عنهم انه لم يكن لنظريات النقد الحديث أن تستقر وتتماسك وتجد لنفسها نسبا عريقا فيما تشهده مختلف العلوم الإنسانية من تطور وما تشهده اللغة الشعرية من ثورة لو لم تنطلق تلك النظريات من مراجعة شاملة وناقدة للموروث النقدي والبلاغي متسلحة بكل ما تم انجازه في حقل الفلسفة من مراجعة للكليات والأصول الموروثة من الفلسفة اليونانية والمقولات الأرسطية التي تشكل المهاد الفلسفي للبلاغة القديمة غربية كانت أو عربية ولذلك لا نعجب أن نقع في الخلط حين نعمد إلى التلفيق والتوفيق بين بلاغة لم نعن باستقصاء فلسفتها ونقد لم نلم بما يستند عليه من فلسفة قامت على نقض ما تستند عليه البلاغة من فلسفة.
وأباح غياب الوعي المزدوج بالفلسفة لآليات التفكير أن تنشط مغفلة جوانب الاختلاف ومقتنصة معالم الاتفاق والتشابه فردت ما هو حديث مجهول إلى ما هو قديم معلوم وما هو طاريء على التفكير إلى ما هو مستقر فيه ففهمت هذا في غطار لا يخرج به عن ذاك ولم يتجاوز الامر ان يكون مصطلحات حديثة لمفاهيم قديمة ولم يستشعروا بما قاموا به من جمع وتوفيق وتلفيق بتلك القطيعة المعرفية التي تاسست عليها الفلسفات بل والعلوم الحديثة ومكنت من تحقيق نقلات نوعية في تاريخ الوعي وتطور العلوم.
وتأخذ المسألة منحنى أكثر خطورة وحدة حين تدعم ذلك كله نزعة التأصيل لدينا والتي نحرص من خلالها على وجود أصل نرد إليه ما نتصور أنه منتسب إليه ومتولد عنه على نحو يتماهي فيه الفرع المتصور مع الأصل المتوهم ويتحقق لنا بذلك تسلسلا للمعارف والعلوم يدرأ عنها ما يحدث فيها من قطع معرفي لا نكاد نرى فيه غير خروج على الإرث وعقوق للتاريخ.
ولا يخلو الأمر بعد ذلك كله من انحياز واضح لما نملكه من إرث يجعلنا نطير فرحا بما يشبهه أو نتوهم أنه يشبهه لدى غيرنا فنرد هذا إلى ذاك ونلحق ذاك بهذا لكي نؤكد بعد ذلك ان ما يلهج به المحدثون اليوم في أمم سوانا قد توصل إليه أسلاف لنا منذ قرون وأننا أصحاب السبق في كثير من المجالات التي يدعون أو يدعي المتحمسون لهم أنها من منجزاتهم.
تغريبة التناص
يؤكد باحثان ينتميان إلى بلدين عربيين في بحثين لهما نشرا متتابعين في عدد واحد من أعداد مجلة علامات على الصلة بين مصطلح التناص كما عرفه النقد الغربي الحديث ومصطلحات السرقة والتضمين والاقتباس كما استقرت في البلاغة العربية فيقول المختار الحسني في بحثه إستراتيجية التناص : ومعنى التناص بشكل عام هو أن يضمن المبدع إنتاجه قليلا أو كثيرا من نصوص غيره عبر ما كان يعرف لدى القدماء بالسرقة والتضمين والاقتباس والتلميح والاستشهاد، ويخلص الباحث مما توصل إليه إلى أن يكون”مفهوم التناص أمرا معروفا لدى كافة الأمم وإن لم يستعملوا هذا المصطلح الجامع لكل تلك المصطلحات” ويتضح لنا من خلال ذلك أن المسالة لا تعدوا أن تكون مسألة مصطلحات متعددة لمفاهيم مشتركة موجودة ومعروفة لدى كافة الأمم ، ولعل الخلط بين التناص كنظرية لها منطلقاتها النظرية وآلياتها في مقاربة النصوص و بين النصوص وما يبدو فيها من تعالق واضح وهو الخلط الذي انتهى بالباحث إلى القول بأن مفهوم التناص أمر معروف لدى كافة الأمم.
ويذهب الباحث الآخر محمود جابر عباس في بحثه إستراتيجية التناص في الخطاب الشعري العربي الحديث إلى أن “هناك قواسم مشتركة بين موروثنا النقدي والبلاغي العربي القديم والمصطلحات والتجليات والمفاهيم النقدية النظرية والإجرائية الحديثة في الآداب الأوروبية ونصوصها الأصلية والتأسيسية فقد وجدت مفاهيم ومصطلحات نقدية عربية قديمة كالسرقات الأدبية والتضمين البديعي والنقائض والمعارضات هي أقرب هذه المفاهيم والمصطلحات في الدلالة والإجرائية إلى مصطلح التناص لما فيها من اقتراب من هذا المصطلح ومفهومه”
أما عبد الملك مرتاض فلم ير بدوره في التناص إلا أنه “تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما ونصوص أدبية أخراة” مؤكدا أن “هذه الفكرة كان الفكر النقدي العربي عرفها معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية”
واعتد عبد الله الغذامي بنظرية التناص باعتبارها ” نظرة جديدة نصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات أو وقع الحافر على الحافر”ولذلك ولج الغذامي إلى الفصل الذي كتبه عن تداخل النصوص في كتابه الخطيئة والتكفير مصطحبا معه عبد القاهر الجرجاني وابن فارس وشولز وليتش وجوليا كريستيفا موفقا بين هؤلاء وأولئك لتفهم “إشكالية تداخل النصوص أو الاحتذاء كما اسماها عبد القاهر”
وتبلغ جرأة التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم والتلفيق بينها أن ابتكر باحث مصطلحا سعى فيه إلى التركيب بين السرقات كما عرفتها وعرفت بها كتب النقد القديم والتناص كما انتهت إليه الدراسات الحديثة فأطلق على ما جمع فيه بين هذا وذاك مصطلح “التلاص”
ومهد هذا الفهم للتناص لتحويله إلى مجرد جملة من الإجراءات الميكانيكية التي تفتت أشكال العلاقة بين النصوص المتعالقة من حيث التشابه والاختلاف والزيادة والنقص والتركيب والنقض وما إليها من أعمال إجرائية لا نسب يجمع بينها وما تأسس عليه التناص من نظر فلسفي يشكل جزء من خطاب يتجلى في مختلف العلوم الإنسانية ويمد بسبب إلى العلوم الطبيعية والتجريبية التي هزت يقينيات الفلسفة القديمة وقوضت قواني العلم القديم.
وإذا ما أعدنا التناص إلى مهاده الذي ظهر فيه وفلسفته التي يؤول إليها، على الرغم من أن هذا ليس هو هدف هذه الورقة التي التي كان ينبغي لها أن توقف عند حدود ما تترامى إليه من كشف عن مخاتلة البلاغة لمن يأخذون بطرف من النقد الحديث، إذا ما أعدنا التناص إلى بيئته فإننا لن نعدم أن نجد فيه ما يمكن أن يكون ضربا من إعلان موت النص وهو إعلان يتسق مع جملة الوفيات أو الميتات التي أعلنت عنها الفلسفة المعاصرة وتجلت آثارها في جملة من النظريات النقدية التي تبلورت في البيئة التي برز فيها مصطلح التناص
وفي عجالة لنا أن نرى أن التناص نظرية في القراءة تتصل بما ينبغي أن ندركه من أن سيادة النص واستقلاله مخترقة بما يعرض له من تناص مع نصوص أخرى لا تلبث أن تربك حدود دلالاته ومعانيه لتقحم فيه دلالات ومعاني سواه من النصوص التي استحضرها، ثم لا تتوقف المسألة عند هذا الحد ذلك أنه سوف يصبح من المستحيل العودة لقراءة تلك النصوص التي تم استحضارها في ذلك النص دون أن تكون تلك القراءة مشوبة بما استقر لدى القارئ من معاني النص الجديد ودلالاته أو بما نهض به من تأويل لما تضمنه من النص السابق عليه.، وتلك دراسة أخرى ليس هذا موضعها.
________________________