كتبته: أسماء السليمانية
ترجمه إلى العربية: سعود السليماني
“علي..علي.. حبيبي علي.. انظر إلي.. تعال هنا “
صَمَت و لم ينبس ببنت شفة ..لم يستجب لنداءاتي أبدا.
كان الجميع يظن أنه في عداد الصم و قد بلغ حينها خمسة عشر شهرا من عمره، و ذلك حين لاحظنا عدم قدرته على سماع ما نقول. لم تصدق أختي أم علي هذه الظنون و ظلت تتجاهل مخاوفنا و دهشتنا مما يحدث له، فهو “يحب مشاهدة التلفزيون و يشعر بالحماس و النشاط عندما يشاهد الأطفال يغنون” كما تقول أختي.
ألحت أمي على أختي أن تجري فحص السمع على علي. تجاوبت أختي و ذهبت به إلى المستشفى لإجراء الفحص، و قد خرجت من هناك بنتائج طيبة تشير إلى قدرته على السمع، و نحن مازلنا مذهولين مما يحدث. ما المشكلة إذن؟!
ظن ابن عمي –أب الطفل- الذي لديه معرفة واسعة بالطب أن ابنه علي قد يكون مصابا بالتوحد. مرت الشهور، و علي يكبر، و حالة الريبة و الاستغراب تكبر معنا. كان علي يركض بشكل دائري دون توقف، و لا يتفاعل مع الأطفال أبدا، و كان يشيح بنظره دائما عندما نتفاعل معه، و ما صَعُب على نفوسنا أنه لا يتكلم، فتراه إما يضحك بصوت عال دون سبب أو يعبر عن سَورَة غضبه بالصراخ.
أصابت توقعات ابن عمي، فقد شخص الأطباء حالة علي بالتوحد. عندما تساءلنا عن أسباب الحالة أفادنا الأطباء حينذاك أن حالته ما زالت قيد الاختبار و التحليل لديهم، وعلى ذمة ما جاء في بعض الأبحاث أن “مجموعة من العوامل الجينية و البيئية قد تسهم في تغيير تطور الدماغ”. جدتي كان لها نظر آخر و لم تقتنع بكل هذا، فأصرت على أن علي قد يكون مصابا بعين شريرة قيدت لسانه عن النطق أو ربما سلبت عقله!
كان الجيران و أهل القرية مذهولين من حالة علي . كُنتُ أظن أن التوحد هو حالة يركن فيها المصاب إلى الهدوء و الوحدة فقط، و لكن حالة علي كانت غير عادية تماما، حيث كان وحيدا و لكن لديه نشاط مفرط! و كان على أمه أن تشرح حالته المثيرة للاستغراب لكل من يسأل، و تخبرهم عما قرأته عن التوحد أنه “حالة عقلية أو قصورمزمن في النمو الذهني، و تتنامى هذه الحالة منذ مرحلة الطفولة المبكرة، و تتسم بصعوبة التواصل و تكوين علاقات مع الآخرين ، و صعوبة استخدام اللغة و المفاهيم المجردة”. كان علي يعيش بكل بساطة عالمه الخيالي وحده.
خرجت في أحد الأيام إلى فناء المنزل لأطمئن على علي و هو يلعب في الأرجوحة، و قد هالني ما رأيته.. بقع دم تلطخ قميصه و بقع منتثرة على الأرجوحة و الأرض. كان ينزف من جرح في جزء من صوان أذنه، فهرعنا به إلى المستشفى لخياطة جرحه و إعطاءه الدوام اللازم. أدركنا هناك أن علي لا يشعر بالألم! فقد يتعرض لحروق أو جروح أو يمشي حافي القدمين تحت الشمس الحارقة دون أن يصرخ ألماً أو يطلب المساعدة.
لماذا؟.. “الطفل التوحدي لا يشعر بالألم كغيره من الأطفال، لذلك ينبغي مراقبته و متابعته بعناية بالغة”، و على جميع أفراد عائلته متابعته طوال الوقت، و إلا فقد يبقى عرضة لأي خطر دون أن يجد فرصة للنجاة منه. لم تتوقف أمي من التضرع إلى الله أن يحفظ علي و يَكلَأَه بعنايته.
في يوم ما كنت خارج المنزل و اتصلت أختي لتنبئني بخبر مريع.. علي مفقود! .. بكت أمي هلعاً و حملت نفسها مسؤولية ما حدث، لأن علي كان تحت عنايتها وقت ذهاب أمه للعمل، فخرج أخي بسيارته فورا للبحث عنه. بعد ساعة من غياب علي وجدوه قد اقترب من بيت عائلته الذي يبعد ثلاثة كيلومترات تقريبا عن بيتنا، و قد وصل إلى هناك حافي القدمين!
يحكي إيريك كوتشن تجربته في تربية ابنته التوحدية قائلا: ” في اللحظة التي تعطس فيها أو تحرك رأسك قليلا، تجد الطفل التوحدي قد وَلى إلى الشارع هاربا”. يُعرف عن المجانين أنهم يجوبون الشوارع، فكانت عاملة منزلنا غير مهذبة و لا تملك من لطف الشعور ما يمنعها أن تطلق على علي بـ “المجنون”.
لم يرد مصطلح التوحد في تاريخ الطب حتى عام 1944 عندما تحدث الطبيب النفسي الأمريكي الجنسية ليو كانر حالة التوحد بقوله: “كان وجود أناس مصابين بالتوحد أمرا جليا، و لكن المجتمع كان يضعهم في عداد المجانين”. و يقول كانر أيضا بعد نشر ما كتبه عن التوحد: ” يبدو أن الدولة بين ليلة و ضحاها أصبحت مأهولة بأعداد هائلة من أطفال التوحد.”
بناء على ما قاله كانر فإن علي ليس مجنونا، و ليس أدل على ذلك توجهه إلى بيت عائلته مباشرة عندما هرب من بيت أمي، و هذا ما يشير إلى ذكاءه و قدرته على تحديد مكان البيت. الأطفال التوحديون عموما لديهم مستوى عادي من الذكاء، و لكن توجد أنواع مختلفة للتوحد مصنفة بناء على تشخيص أعراض معينة، لذلك تتفاوت قدراتهم الذهنية، فلدى بعضهم مهارات بارزة و آخرون لديهم مستوى عال من الذكاء، و لكن هذه حالات قليلة غير مُطردة فلا يقاس عليها.
أُخِذ علي إلى مراكز توحد في الأردن و المملكة العربية السعوية، و أجريت عليه بعض الفحوصات هناك وأُرسِلت العينات المخبرية إلى تركيا لتحليلها، كما استمرت أختي في الزيارات الدورية إلى عيادة الطب السلوكي بمستشفى جامعة السلطان قابوس لمتابعة حالته، و لقد تأكدنا أنه لا يوجد علاج للتوحد، و لكن قد توجد بعض الأدوية للتحكم بسلوكه. كل ما استطاعت أختي أن تفعله لمساعدة علي إضافة بعض الأطعمة إلى نظامه الغذائي و التي لها دور في تحفيز نشاطه الذهني طوال الوقت مثل إضافة الجوز إلى العصائر الطازجة، و جرعات من زيت أوميجا 3. يمكن علاج أطفال التوحد فقط بالطرق التأهيلية في التعليم و التطوير.
في الثاني من شهر إبريل الجاري كان بيت أختي مضاء بمصابيح زرقاء احتفاء باليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد. كانت تلك الإضا ءة مميزة و ملفتة للانتباه، و قد شعرت بقشعريرة تسري في جسدي من روعة المشهد. ما يريده علي هو العناية و الرعاية وقبول المجتمع لحالته مثل جميع الأشخاص الأسوياء.
إلى جميع أطفال التوحد في العالم و إلى حبيبي علي ابن أختي: “أحبكم و أتمنى لكم حياة هانئة”