ماذا يبقى لامرأة جاوزت الأربعين، خبأت شهقاتها بين السطور ، تنفست وجودها بآهات مهربة ودهنت جراحها بالأمل والذكرى؟ هل نتفق أن النص كينونة لغوية لا تفسر إلا بلغة أخرى وأن اجتراح إثم القراءة معادلة تفاعلية بين النص والمتلقي، ولهذا فلا ثوابت في فهم النص ، لأن المعنى حالة لا مستقر لها،وأن النص المتماسك هو الذي يتوفر على إمكانية قراءات متعددة شريطة توفر مستوى ما للمتلقي يساعده وعيه في استنطاق النص، دون أن نغفل حقيقة يتغاضى عنها الكثير: أن القصة القصيرة مجال واسع للتجريب، لم يؤطر بقواعد تقعيدية مستقرة، وأن كل نص جيد يحمل في ثناياه شرط وجوده الفني، تاركا مساحات فارغة يكملها المتلقي بتفاعله مع النص. لا يملك متلقي نصوص “مريم جبر”غير أن يكبر ترجمة الساردة لوجودها وتحليقها خارج الطيني، بضبابية مخاتلة تترك للقارئ اكتشاف لذة التعاطي مع فضاءات المعنى، محاورة التلغيز الذي يكفن النصوص التي تفيض ببوح فلسفي متأمل، تتهم وتحيل وتجعل من الذات بؤرة مركزية، يعمل الخارج على توزيع جرح الأنا فيها، عدا ومضات حلم ينوس بين السطور وعدا بأمل،ينبش جراح الروح محمولة على وسيط لغوي يتجذر في الداخل مطحونا بالفجيعة. تطحنها الأسئلة الحارقة ، تنخرها سنوات البحث، وينشب الخوف أظافره في وجعها ، تئن المرأة فيها بوجع الرحيل ، تغمس ريشتها بدمها، تكتب نصوصها محاصرة بالاشتعال ، متروكة للتيه ، مهرة أتعبها السير وذابت في حزنها الدفين، تكبر فيها الأسئلة مع تعمق التجربة. يحوم على نصوص “مريم جبر”طيف امرأة ، يستحثك على نبش ماضيك فتقف أمام لوحة وجد تصرخ “أنت موجود فيّ” ، ساردة تزرع نصوصها ببذرة الوفاء لامرأة مثال، محاولة تلخيص ذاكرتها من نسيانها ، متشبثة بتفاصيل لا تريدها أن تغيب ، تعضّ على الجرح، تقاوم الألم وتصر على القناعات، تدشن غربتها وغموضها وفلسفتها (عنيدة) تعيش حرمان المرأة لكنها ترفض الهزيمة والخضوع، تتجلى بخفائها ، تعود لجوانيتها وتسأل بحرقة ،أسيرة الدهشة، تحفر أعماق أسئلة مغيبة، ضحية تعايش شتات ذكرياتها المسافرة. نصوص “مريم جبر” محملة بالطاقات التعبيرية والأداء اللغوي الرفيع والشحنات النفسية للمفردة، تعبّر عن جوهر الإنسان ، ملخّصة أدب الانفعال بالحياة ، مؤكدة على أن الكتابة آلية إدراك ورفض للمصادرة، وتمثل فني ناضج لتجربة صادرة عن مرجعية تعي محركات النفس ومتغيرات الواقع،راصدة دواخل الشخصية النفسي. تكثف الحدث وتقتنص الإشارة الدالة وتمنح النص طاقة لتأويلات متعددة ، منطلقة من قاعدة: أن العمل الأدبي لا يمكن أن يكون تاما بغير وعي متلق يفيض من ذاته على النص. نصوص تحمل أحاسيس المرأة واخيارها وتطورها في حالاتها المتوترة والمتناقضة ، مجدولة بوعي لا ينساق وراء هذر لغوي ولا يقيم مأتما حول الخسارات التي تنهب حياة الأنثى. تطل نصوص “مريم جبر”على تنوع فتوحات المعنى وتعدديته ، منظومة بحس مرهف والتقاط جميل لزمن القص والذاكرة ، في سياق مشاغب آسر،برفض التسليم بقراءة أولى ، يشكّل كل نص تجربة متفردة في تكنيكه الفني وترتبط النصوص جميعا بخيط نفسي ووحدة شعورية تغوص في الداخل ، تعريه ،لنصبح من ثم أكثر عمقا في فهم أنفسنا ومن حولنا، وننجح من ثم في بناء عالم مواز لعالمنا الحقيقي المشروخ، بتكثيف ممتع وبناء لغوي شائق ودهشة تخلخل الذهن وتبعث فيه قلق معاودة التفكير في أبجديات النص من جديد. ساردة نصوص “مريم جبر”تحكي لكي تتعلم وتكتب لكي تكتشف، تستنطق المضمر داخل المرأة وتضيء المقموع داخلها ، مصوّرة تضاد الرجل ، تهجو وعيه الزائف ، مشخّصة صراع الذات مع معوقات تحقق حريتها ، متأملة صعوبة الوحدة التي تجد ملاذها في حلم، تبث نجواها السردية بحثا عن أفق مستحيل، مقارن منها زمنها النفسي بالميكانيكيّ، متعلقة بأمل، تعويضا عن مثال، في حوار داخلي عنيف معلق على ظمأ حلم ساكن، حجب الرؤية عن استحضار وجه غير الذي نأى. ساردة تترجم وجدها/معلقة وجودها بما هو خارج الطيني ، متحررة من مكانها، منعتقة نحو تسام شفيف، يبتعد خارج حدود الطين . نصوص اعكس خصوصية الساردة وترسم شخصياتها بحضور فاتن عبر رصد حالات القلق والتوتر والحزن والفقد، والتقاط أخاذ لآثار الزمن على الإنسان، حد الذهنية والتجريد الذي تدافع عنه الكاتبة معتبرة أن التعمية والترميز يمنحان النص وهجا والمتلقي لذة اكتشاف، وبهما يداري المرء خوفه مما يحيط به من أخطار. نجحت نصوص الكاتبة في الحفر داخل طبقات هموم المرأة بإدهاش وتكثيف محمّل بلمحات فكرية تاخمت حدود الفنتازيا ، مع توظيف الحوار الذي عمّق النص وكشف مستوى الشخصيات وأغوارها ، مستفيدة من تسخير تقنيات اللقطات المتبادلة والتقطيع السينمائي والارتداد كما في نص”زيتونة”، وبتنويع الضمائر وتوظيف تيار الوعي واستخدام الفعل المضارع. يمكن للمتلقي أن يرصد التركيز على الوجه/العين/ الطين، وحالة لم تتوقف مجمل النصوص عن إضاءتها : الإنسان المسخ، معادلا للمرفوض والسلبي والقامع…”الرجل ذو القامة القصيرة والرأس الصحراء يوجه كلاما لا أفهم لغته”، هذا التصوير التهكمي يعكس عدم التواصل مع الآخر وانقطاع عرى التفاهم معه، وهو من ثم مصدر قلق لدرجة أطلق عليه النص لفظ “هذا” مجردا… ” تملكني خوف من هذا الذي يقف في الزاوية مكتوف اليدين “، ولنلحظ أن حالة المسخ تسقطها النصوص على الأنثى أيضا ممن تلتقي مع الرجل /النكرة بنفس درجة الكراهية..قال الرجل!..”قبل أن يستوقفه صوت الخنفساء..”، مثل هذه العلاقات المشوهة بين رجل نكرة بصفات مرفوضة وعلاقات مأزومة مع المرأة لن ينتج غير مولود كسيح. مقابل الصورة المتشظية للرجل، تنبلج صورة الآخر المثال / الحلم في وعي الأنثى التي تخاطبه بامتلاء يعبئ فراغ وجودها …ذلك الرجل الجميل استعجل الغياب مخلفا وراءه امرأة جميلة …وقبل أن يمضي يعيدا، لم يعرف كيف يعيد تشكيل روحه ليكون قمرا على الأرض وبزيد الدنيا بهاء. صورة المسخ تلح على الذهن رمزا كريها وتلتقط النصوص له وضعا كاريكاتوريا، إمعانا في التشويه…ما زال الرجل الضخم في مقدمة القاعة يجلس على كرسيه باسترخاء وقد تحول الى شفتين وذراعين تتحرك بتلقائية عجيبة والمرأة المطعونة بسيف الضياع، لا تجد ملاذا غير مناجاة النفس ، تهرب من أتون احتراقها..يا امرأة من شفق ولغة، أقيمي طقوسك ولو مرة في موسم عمر لم نحصد فيه غير وجع الليالي المذبوحة في الغرف المغلقة على اللذة/ الوهم والعرق الحرام. المرأة التي تعيش زمنها بميكانيكية داخل سجن الصمت والتدابر وخلق فضاءات خاصة تعوّض بها تواصلها الإنساني المفقود، تهرب للذكرى، تستحضر ما يطفئ لهيب احتراقها… أول الطقس فاتحة لأسمك، أوله صلاة لعشب صدرك. للأبيض الشهي النابت في تعبك، لعلامة سرها في صدر امرأة احتضنتك مرتين، امتدت فيهما قامتك باتجاه حلمها. عاشت المرأة أحلامها بعيدة عن صحراء الجفاف التي تحيا فيها بخلق حلم تأنس إليه ، تحاوره، تبني به ومعه عالمها الوضاء اللذيذ، أما الآخر فلم يدر بخلده أن المرأة تستعيض عن جفافه برذاذ المطر الجميل الذي تنثه الذاكرة ووجد القلب… لم يصدق أنني خلقت رجلا بقلب واحد وعينين ، بلغة واحدة وشفتين، ببسمة واحدة، فسكنت غيمة روحه ونسجت له حوارات لا تنتهي. هذا الحلم، يمنحها قوة تواجه بها التفاهة التي تحيطها، يبث فيها الرضى للصبر على فلسفة التحجر التي يتعامل بها الآخر على الجنون الذي تتعاطاه والقبح الذي تجبر على استشرافه، والفراش الذي تضطر لمشاركته والانكسارات التي تحياها، مكتفية بتهجي الأسماء الحبيبة، مستعيرة عينيّ المثال الذي يمنح العالم لغتها، مشتعلة بقسوة الانتظار الذي يؤكد لها أن البيت لا بيت وأن الأصدقاء ندامى. تدور بعينيها ، تكتشف أن ما حولها صغير إلا وجه المثال، يقف بموازاتها ، يجدد أملها ، يلمه، يكونا امتدادا واحدا بالحلم والتمني ومعاودة طرح السلام على أوراق تبادلاها لحظة وجد. تضاريس حياتها الجامدة المألوفة ، لا يخلخل روتينها ويبث نبض الفرح في عروقها غير العودة للبهاء الأول الذي ما زالت تحسه يتناثر على صدرها باستشراف تقاطيع الوجه القادر على التقاط مفردات فرحها وأنّات وجعها وهي بين الحين والحين تطلق صرختها الذبيحة معلنة رفضها للواقع المر المدمر: أن نأكل الخبز الذب لا نريد/أن نسلم أرواحنا لحماقة دفء/ أن نكتب الكلمة التي لا نقول/ أن ننسج من أوهامنا أغنيات فرح لا بد آت/ أن نطلق أصواتنا لريح غمستنا في مستنقع وهم سادي يتلذذ بتشظياتنا ! تلك هي الفاجعة. أمام كل هذه المواضعات الإنسانية ، كيف للغة إلا أن تتحول كفنا لكل المحظورات؟ وكيف للمرأة ألا تكفّن وجه الحبيب وألق عينيه وطبقات صوته، نبعا للحنان المفقود وسعيا وراء استقرار نفسي مأمول، هربا من وجه قاتل، يحاول صاحبه أن يقتل الأمل ويجفف ينابيع البشرى التي يمنحها الحلم. تهرب الأنثى من احتراقها مناجية مثالها الغافي بين طيات القلب ، تصرخ بلوعتها: لماذا يداخلنا الحزن في عز فرحنا ويترقرق في مقلتينا بريق الخوف! لماذا نغرق في وهم أكبر كلما حاولنا الهروب من همّ ! لماذا ينبت الفرح في حقول الحزن ؟ أنت الملاذ ، بك تنتهي الآلام وبك أبدأ من جديد.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC