ها هو يعودُ كما الطفل إلى بيته القائم بين المؤقت والأبديِّ بعد أن أتعبَ الدنيا لعباً. فالأشياءُ العظيمةُ لا يُتقن لعبها وقواعدها سوى الأطفال المجانين لأنهم هم وحدهم يبصرون أحلامهم تحلِّقُ كالصقور فوق رؤوسهم متيقنينَ أن كلَّ ما يُرى يمكن أن يكون ذات يوم، وهو من أكثر هؤلاءِ الأطفال نبلاً وجنونا.
ها هو يعودُ لينام هادئاً بعد أن أشرفَ بنفسه على تأثيث بيته الأسطوري بشاعرية كبيرة، إنه غابريل غارسيا ماركيز الذي أظن أن كائناته السحرية تُشبه إنسانه الأرضيَّ الواقعي إلى حدِّ كبير – وهذا ما يفتقرُ إليه الكثيرُ من كتّابِ هذا العصر – فهي نبيلةٌ هادئة، بسيطة ساحرة، وغريبةٌ في عالمها رغم تشابكها مع خيوطه الصغيرة والكبيرة، ها هو يَعودُ بعد أن خاضَ حربه مع العالمٍ الشرس، لا يَملكُ سوى الحبِّ الذي يُحاربُ به ويدعو إليه، وقد كانَ الموتُ يَتربصُ بخطواته، يُراقبه طوالَ رحلته الآدميةِ.
سيُمتحنُ العالمُ من جديدٍ أيها الصديقُ المدثِّرُ الآن بطينته البشرية وذلك بعد أن نقصَ منسوبُ الجمالِ على الأرض، فإن كان العالمُ يَتغيرُ كثيرا أو قليلا عند زيارة كلِّ شاعرٍ – كما يقول أنسي الحاج – فإن منسوبَ الجمالِ قَدْ نقص كثيراً بعد رحيلك لأنك استطعت أن تَتجردَ من كونك فرداً لتصبحَ طاقاتٍ وتجاربَ موزعةً في كلِّ واحدٍ منّا تَأخذُ شكلَ الحِبرِ أحياناً من أجل الإلذاذ، وشكلَ الحربِ في أحايين أخرى من أجل الدفاع عن جمالٍ خصوصيٍّ ما، فكم من واحد منّا استند على رؤيةٍ في جملةٍ لينتصرَ بها، وكم واحد منّا لامستْ أصابِعُه قرى وشخوصا تجترحها رؤاه انتصاراتٍ وأعراسَ جَمالٍ، وأنا هنا أستخدمُ كلمة ( يجترح ) رغم ارتباطها بالشرِّ والخطيئةِ حسب القاموس، لا لشيء بل لأن الجمالَ والحبَّ أصبح خطيئةً ومادةً محرمةً في عالمنا المفترسِ للجمال والحب.
ارتحلتَ بنا إلى أقصى حدودِ الواقعيَّ المطعَّمِ بالبعد الأسطوري، وأذبتَ الفواصل والخطوط بين التاريخيّ والخرافيّ بداخلنا، إنك صانعُ أبطالٍ تراجيدين من الدرجةِ الأولى يا صديقي، إنهم نحن، نحن أبطالك الذين تشاكسنا أقدارنا، فكلُّنا جَنرالاتُ محبةٍ وسلامٍ، تغسلنا أمطارُ عزلتك ويحاصرنا موتٌ مُعلنٌ، الكلُّ يعلْمه إلا نحن، كلُّ هذا كي نَجعلَ حربنا أكثرَ شرفاً وأقلَ هزيمةً.
فلك المجدُ والخلودُ حتى وإن كان خلوداً لغوياً، فلا سبيلَ لهزيمةِ الموتِ إلا بوهمِ الانتصارِ اللغويِّ هذا.
قد استطعتَ أن تزرع حقلك الباطني وتُطيِّرَ أسطورتك الشخصية حقولَ وردٍ في الذاكرةِ الجمعية فنمْ هادئا مطمئناً وجميلا.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC