اللغة المقالية
د. عارف الساعدي – العراق
ربما يختلف معنا الكثيرون حين نقرأ “المقالة الأدبية” النقدية ونحاكمها محاكمة البحوث والدراسات ونخضعها لشروط الكتابة النقدية البحثية الخالصة، وقد أشار الدكتور الناقد علي جواد الطاهر في مقدمة كتابه “وراء الأفق الأدبي” “بأنه يكتب لا ليعلم أو يوصل مادة من مواد المعرفة كما إنه لا يقوم بعملية من عمليات النقد الأدبي وكأنه يشعر إن لهذه الأمور أماكن أخرى([1])، وبهذا يشير الدكتور الطاهر إن مقالاته ليست دراسات نقدية لأنه يميز بين المقالة وبين الدراسة وقد نبعت هذه النظرة للطاهر من خلال رؤيته التي تتعامل مع المقالة بوصفها جنساً مستقلاً كحال الشعر والقصة والمسرح، لذلك نجد الطاهر يبوح في أكثر من موضع حين يقول: “ولو أعرب هذا الكاتب عما في نفسه كاملاً لقال إنه يريد المقالة جنساً من أجناس الإبداع الأدبي له صفاته الخاصة حتى لو أجتذب خيوطاً لنسيج هذه الصفات من الشعر الغنائي أو القصة أو المسرحية…”([2])، لهذا فقد يتبادر إلى الذهن إن الفصل الأول “اللغة المقالية” المقصود منه فقط لغة المقالات سواء الأدبية أو النقدية أو الإنشائية، وقد تكون المقالة ضمن هذه الحدود جزءاً من هذا الفصل ولكن ما سنعني به هو ما يترشح من صفاتها وخصائصها وانعكاس هذه الخصائص في مرآة النقد العراقي ليتضح لنا إن اللغة المقالية تأخذ مساحة كبيرة من لغة النقد الحديث في العراق فما زالت روح المقالة تتغلغل في النصوص النقدية([3]) “وبالرغم من اهتمام النقاد بإصدار الكتب التي تتناول الظاهرة بقيت المقالة النقدية هي الأكثر تأثيراً في ترسيخ البنية التحتية للنقد العراقي، وما تزال هذه البنية واضحة المعالم والتأثير”([4])، لذلك هيمنت الروح المقالية على المنجز النقدي الذي لم يحسم أمره بعد بشكل نهائي مع المناهج النقدية الحديثة، لهذا فالمنجز النقدي في العراق منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينات يدور –أغلبه- في فلك اللغة المقالية، حيث تهيمن على تلك اللغة النزعة الخطابية والإنشائية “إذ يبرز شخص الأديب مباشرة بضمير المتكلم، فالعاطفة عاطفته مباشرة، والفكرة فكرته مباشرة… وأنت ترى الأديب نفسه خلال كلامه”([5])، ومن خصائص اللغة المقالية “اعتماد الذوق وأدبية المقالة النقدية، والاهتمام بالمضمون، والاستطراد، والاستعانة بما حول النص…”([6])، كما إن المقالة النقدية تكون أخف وطأة على القارئ من البحث والدراسة لأسباب عديدة منها قلة الهوامش في المقالات وقلة استخدام المصطلح النقدي أو يكاد يغيب المصطلح النقدي في “اللغة المقالية” ذلك لأن المصطلح النقدي واحد من إفرازات المناهج الحديثة التي تغيب عن عمل النقاد ذوي اللغة المقالية، فهم لا يعتمدون إلا على ذاكرتهم وذائقتهم وثقافتهم في التحليل والقراءة، لذلك فالذات عالية وواضحة في اللغة المقالية “ذات الناقد” و”اللغة المقالية” تأخذ مساحة كبيرة من الرقعة النقدية العراقية –كما ذكرنا- لهذا فهي تحمل تنويعاتها معها، إذ لم تكن “اللغة المقالية” على حال واحدة، إنما تنوعت بتنوع النقاد وطريقة أدائهم الأسلوبي في اللغة النقدية، ومن الممكن رصد بعض هذه الأنواع إذ تأتي “اللغة المقالية الأخلاقية” أولاً وتردفها “اللغة المقالية الرومانسية” ثانياً، وثالثاً اللغة الشعرية، هذه التنويعات تشكل المهيمن على “اللغة المقالية” وقد نجد نقاداً عراقيين تأخذ الأنواع كلها حصتها من لغتهم النقدية، فقد نجد ناقداً ذا لغة أخلاقية في كتاب، وفي كتاب آخر ناقداً ذا لغة رومانسية… الخ وهناك نوع رابع أخذ مساحة لا بأس بها في النقدية العراقية أسميناه “اللغة السياسية أو الإيديولوجية” وربما يتساءل البعض عن سبب اختيار مصطلح “اللغة المقالية” بدلاً من “اللغة الانطباعية” التي قد تقترب من “المقالية” نقول إن الكتابة المقالية بنوعيها الذاتية والموضوعية تعد جنساً أو ضرباً من ضروب الكتابة النقدية الشائعة والمكرسة في كتابات النقاد التي من خلالها تستخلص أنواع مختلفة من اللغات النقدية تبعاً لأسلوب الناقد وثقافته، كما إن هناك ثمة ترابطاً واضحاً بين الانطباعية والمقالية في النقد، ولاسيما في مرحلة ما قبل المنهجية النقدية، وفي هذا الشأن نجد التماهي بين الانطباعية وأسلوب كتابة المقالة الذاتية، لهذا فاللغة المقالية ترادف اللغة ذات النزعة الجمالية الذاتية وإن الانطباعية بمفردها لا تفضي بالضرورة إلى تلك اللغة النقدية الخاصة.
([1])يُنظر: وراء الأفق الأدبي، د. علي جواد الطاهر، 6.
([2])الباب الضيق، د. علي جواد الطاهر، 7.
([3])يُنظر: المكانية في الفكر والفلسفة والنقد، ياسين النصير، زهير الجبوري، 53.
([4])المكانية في الفكر والفلسفة والنقد، 56.
([5])الثقافة الأدبية، د. علي جواد الطاهر، 16.
([6])ترويض النص، حاتم الصكر، 85.