مركز جورج بومبيدو: فبركة للعقول علميا
الطيب ولد العروسي
يحتفل مركز جورج بومبيدو الموجود في قلب العاصمة الفرنسية بباريس بمرور 37 سنة على تدشينه، إذ يستقبل حوالي 30 ألف زائر يوميا، أنشأه الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو (1911-1974) أثناء حكمه، وهي عادة حميدة اعتمدها الرؤساء الفرنسيون عندما يتقدمون إلى الانتخابات فيعطون الجانب الثقافي الأهمية التي يستحقها، ثمَّ يتركون بصماتهم في هذا المجال الحيوي والمهم.
قدم جورج بومبيدو سنة 1969 مشروع إنشاء مركز ثقافي، إذ بدأ العمل فيه خلال شهر أبريل 1972 وذلك بعد استشارة العديد من المهندسين العالميين، وتم تدشينه عام 1977 على مساحة تقارب الألف متر مربع.
ولأن جورج بومبيدو كان مولعا بالفن الحديث، فإن الزائر يجد نفسه في مبنى زجاجي يشاهد عبره أحياء باريس القديمة والمحلات المجاورة، سواء الثقافية كالمكتبات والمتاحف ومركز الأرشيف الوطني، أو قاعات السينما ومحلات البيع المختلفة. كما يفاجأ الزائر بوجوده أمام هندسة لافتة للانتباه، وهي هندسة تصنف ضمن المعمار الحداثي أو ما بعد الحداثي، وكأن المبنى مضخ بترولي بأنابيب كبيرة للتهوية، إضافة إلى المصاعد الكهربائية والسلالم الآلية، التي تظهر بوضوح على واجهات التركيبة الهيكلية المعدنية للمبنى.
يقدم هذا المركز مجموعة من الأنشطة الثقافية عن طريق المتحف الذي يشغل حيزا مهما، حيث تبرمج فيه مجموعة من الأنشطة والمعارض الكبرى والصغرى والمتوسطة، وهو يولي أهمية استثنائية للفنون الحديثة، كما يقدم مجموعة من البرامج الثقافية لقاءات محاضرات ندوات .
كما تحتل مكتبته عدة طوابق لتقدم الإنتاج العالمي عبر الإصدارات الحديثة من كتب وأفلام ومجلات وجرائد، وتستقبل ما بين ثمانية وتسعة آلاف مستفيد يوميا، حيث يمتد الصف قبل افتتاحها على طول 300 أو 400 متر، والكل ينتظر دوره لكي يحظى بالدخول إلى المكتبة والاطلاع على محتوياتها.
كما يتوفر المركز على (معهد بحوث التوافق الصوتى الموسيقى) بالإضافة إلى (مركز الإبداع الصناعي), ومخبر للغات يسمح للمستفيدين بتعلم اللغة التي يريدون، أو تتبع بعض الأفلام الوثائقية. كما يتوفر على مساحة خارجية كبيرة وهي بمثابة فضاء يلتقي فيه المبدعون من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية، وحتى البهلوانيين، أو المهرجين وكل من يحسن تقديم شيء يثير رغبة الجمهور المتردد على المركز. إضافة إلى المناقشات السياسية والفكرية. يوجد هذا المركز بالقرب من نافورة مائية كبيرة مزينة بالمنحوتات المعدنية الحديثة وبساحة الساعة التي تسيّر بطريقة تقليدية.
يعتبر بوبورغ وهو اسم المكان الذي شيد فيه مركز بومبيدو بمثابة معمل حقيقي لفبركة العقول، فأغلب المستفيدين منه طلبة وشباب من مختلف الأعمار والجنسيات، كما يؤمه الكثير من الباحثين والفضوليين، وحتى الذين بدون مأوى يقضون يومهم بين جدرانه متمتعين بالكتب والأفلام وبمختلف ما يوفره لهم المركز، فكل خدماته مجانية. فمتى يستطيع الإنسان العربي أن يرى مركزا مشابها في العالم العربي يوفر إمكانيات النجاح والقضاء على الأمية الحقيقية أو الرمزية؟ ومتى يكون للكتاب في العالم العربي هذا الرواج الكبير، وتكون مكتباتنا فضاءات للمعرفة وفبركة العقول؟
عندما أقدم الرئيس بومبيدو على تشييد هذا المركز، وجد انتقادات كثيرة من بعض الإعلاميين ومن المعارضين للمشروع، لكنه مع الوقت أصبح هذا المشروع نموذجا يحتذى به في كثير من الدول الغربية، كما أصبح تحفة معمارية فنية تفتخر بها باريس، لأنه فرض نفسه كأحد معالمها التي يجب على السياح زيارتها والوقوف عند مسيرتها واكتشاف معالم سر نجاحها.