للأديب اللبناني المعروف الراحل ميخائيل نعيمة بعض الآراء الرمزية والأمثال الحية ذات المعاني العميقة في حياة الناس وتناقضاتهم.. ومما يرويه في ذلك إن الثيران تنادت يوماً للنظر في شأنها مع الإنسان وفي السبيل إلى التحرر من نيره ، وكان بين الجمع واحد يتوقد حماسة وشعراً وانبهاراً بذاته الذكية ودفاعه عن الحقوق وتكسير القيود والأغلال التي تعيق الحرية (!!) وأقنعهم بأن الحرية تؤخذ ولا تعطى وإن بابها المخضب بالدماء لا يقرع إلا بقرون مخضبة بالدماء ، وإن لا سبيل إليها إلا باغتصابها في بيتها . فاتخذوه قائداً ودليلاً ومشوا وراءه صارخين : ” إلى الحرية ، إلى الحرية ” وما زال بهم حتى بلغ بيتاً جدرانه وبابه مضرجة . فقال لهم : هذا بيتها وهذا بابه . فاقتحموا الباب ولا ترتدوا وإن انكسرت قرونكم وسالت دماؤكم أنهاراً .
فما كان من الثيران إلا إن امتثلت لأمر قائدها فتكسرت قرونها وسالت دماؤها . وفي النهاية حطمت الباب ودخلت البيت . فإذا بها ـ في المسلخ ..!!
هذه الحكاية الرمزية التي رواها ميخائيل نعيمة ذكرتني بقضية ” السفسطة ” ذلك المذهب الفلسفي القديم / الجديد وأتذكر في طفولتنا الساذجة عندما نختلف ترد على ألسنتنا هذه ” اللفظة ” ولا نعرف كيف جاءت ولم ندرك مضمونها الدقيق وإن كنا نعتبرها الحوار الذي لا يؤدي إلى نتيجة والابتعاد عن النقاش الحاد الذي يجلب الخصام . وكبرنا وعرفنا بعدئذ إنها مذهب يوناني في الفلسفة وتعني تلبيس الحق بالباطل والدفاع عن الحجة ونقيضها.
وكان الهدف من هذه “السفسطائية” عند أهلها من حيث التلاعب في الألفاظ والمناورة في الكلام الخاوي المتناقض مع نفسه ومع المنطق هو الاعتقاد الذاتي لهذا الخداع النفسي الواهي منطقاً وعقلاً بأنهم أقدر من الفلاسفة على المحاورة والمجادلة وتأليف القياسات الصورية التي لا تمت إلى الواقع بصلة !
في حياتنا المعاصرة هناك سفسطائية جديدة ربما أفظع من “سفسطائية” اليونايين القدامى .. فالقديمة كانت تدافع عن الحجة ونقيضها وتلبس الحق بالباطل .. لكن سفسطائية عصرنا ويا للعجب !! فهي تزيد عليها بأشياء كثيرة وأهمها إنها تحاول أن تجعل حقائق الحوار وبديهية النقاش لها صلة بقضايا أخرى وأشياء مدفوعة وأخرى مؤجلة واتهام وشتم وتفتيش النوايا والقلوب كل هذا لمجرد أنك ناقشت قضية مطروحة وقابلة للحوار لكن ليست على طريقة صاحبنا الهمام الذي يريد أن يثير الغبار لمجرد الاختلاف في الرأي لكننا لن ننزل إلى مستوى الذي يهدف إليه بحيث يجعل للنقاش المنطقي خلفيات ومرامي مبطنة بالخبث وسوء النية إلخ .
فعندما تواجه البعض بالمنطق وتفند دعواهم الواهية بالرد العملي الرزين تجد أنهم تتداعى أوهامهم عند النقاش فزعاً وهلعاً فإذا بهم يرمون الاتهامات جزافاً لمخالفيهم بطريقة غريبة أشبه بالمناورة الساذجة التي قام بها الممثل سعيد صالح في مسرحية ( مدرسة المشاغبين ) في قوله لأستاذه عندما عجز عن الإجابة ” فين السؤال ؟ .. فين السؤال ؟ .. اعطيني السؤال تلاقيني فريرة ” .
فهي مناورة مكشوفة ولعبة قديمة، فهؤلاء عندما كسدت بضاعتهم وسقطت الأقنعة وتهاوت الأفكار الشمولية والقهرية ” تخندقوا ” في أفكار جديدة ونظريات معلبة وجاهزة، ولما يحتاج لها الترويج المغلف بالعلم والعلمية والإبداع وحرية الفكر !!
ولعل أفضل رد على هذه الدعاوي ما قاله المفكر والكاتب البارز د. محمد عابد الجابري في معرض مناقشته لثقافة الاختراق الفكري في قوله :” إذا كان الصراع الأيديولوجي صراعا حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل فان ثقافة ” الاختراق الثقافي ” تستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع : تستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم ويستطرد : الإدراك ؟ـ أي نعم الإدراك ” !!
ويضيف في فقرة أخرى ” ومع أن جميع المعطيات التي حللناها تؤكد وجود هذه الظاهرة ليس فقط بوصفها إحدى معطيات التطور الحضاري العام بل أيضا بوصفها صادرة عن استراتيجية وتخطيط قوي تريد الهيمنة وتعمل على فرضها مع ذلك كله فنحن نعي جيدا أن هناك من المثقفين العرب من يفضل السكوت على الجوانب التي أبرزنا لينظر الى الظاهرة التي نحن بصددها لا بوصفها ” اختراقا ” آو ” غزوا ” بل من خلال كونها مظهرا من مظاهر ” المثاقفة ” ! وأنها فضلا عن ذلك الوسيلة الضرورية ولربما الوحيدة لتحقيق التمدن والحداثة و ” الدخول في العصر ” والمساهمة في إنجازاته الحضارية .
فنحن ـ كما يقول الدكتور الجابري ـ لن نخوض في الدوافع التي تؤسس مثل هذه الاعتراضات أو الرؤية ” الانفتاحية ” التي قد تكون عند بعضهم نتيجة من نتائج فعل الاختراق الثقافي فيهم وعند آخرين تعبيرا عن هواجس ومخاوف وأوهام يحركها شعور بالغربة أو الهامشية .. لن ندخل هنا في تحليل مثل هذه الدوافع التي جعلت بعض المثقفين العرب يتحولون الى ” عملاء حضاريين ” للغرب حسب تعبير الدكتور أنور عبد الملك ، فحال هؤلاء معروفة إذ جلهم يتخذ من الجهل ثقافة ومن الاغتراب حداثة والانشغال بهم بالتالي مضيعة للوقت وإشغال الناس بما لا يجدي “.
فهؤلاء لا ينفع معهم الحوار وروح الاختلاف العقلاني وأساليب المحاورات المنطقية .. فأنت تختلف معهم إذا أنت عدوهم ! وصاحب اتهامات خبيثة ! وتريد شق المجتمعات العربية !! وأخيرا أيضا أن العداء ” للعلمانية ” ثمنه مرتفع ؟!!
أي منطق يقال عند النقاش والحوار والجدل الهادئ , ماذا يعني العداء للعلمانية له ثمن يقدم لكي تكون لها أعداء!! ونحن نطلب من أصحاب الأفكار الذكية والاكتشاف العجيب أن يقول لنا من يقبض الثمن من من؟ وهل معنى هذا أن يكون الدكتور الجابري وبرهان غليون وعصمت سيف الدولة وأنور عبد الملك وعبد الوهاب المسيري ومن قبلهم الشيخ محمد الغزالي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وكمال أبو المجد وعشرات العلماء والكتاب والباحثين كلهم هؤلاء قبضوا ضمن العداء للعلمانية أو مخالفتها ؟!!
أي منطق هذا الذي يطرح على صفحات الجرائد .. بل أي حوار يناقش عبر وسائل الإعلام ؟! فإذا كانت ” العلمانية ” بهذه المكانة عند صاحبنا الذكي الحاد الذكاء، وان كل هؤلاء الكتاب والأقلام التي تناولتها بالنقد قد قبضت الثمن ! فهذا الاتهام يحتاج إلى وقفة تأملية في أحوال البعض من أدعياء الاكتشاف الجديد !! فالاختلاف سنة ربانية كونية في الخلق، وهذا ما أكد القرآن الكريم في قوله تعالي:(ولذلك خلقهم)، ومن هنا قان هذا التعدد في الآراء، وطرح الفكرة ونقيضها بما يدحض الفكرة المخالفة من الايجابيات التي تسهم في إقصاء الفكرة الخاطئة ،لكن البعض لا يريد إلا الرؤية الأحادية في طرحه مهما رؤيته ضعيفة وسقيمة!
لكن الأصح أن الانشغال بهم ربما لا يجدي الناس،فهم لا يتورعون عن القفز عن الواقع والاتهام الجزافي،لأنهم من أصحاب النظرة الأحادية الضيقة التي هي من بقايا الأفكار الشمولية القمعية التي لا تريد السماع إلا رأيها ..وإلا فلماذا الدفاع عن العلمانية وفي نفس الوقت اعتبارها مرادفة للعلم وأنها لا تتناقض مع الإسلام؟ الهدف واضح .. فهؤلاء يسعون أن تكون العلمانية هي شعارهم الذي لا يخفت مع أنها فكرة قابلة للنقاش والحوار والاختلاف حتى عند أصحابها ومؤسسيها نوما التشنج والتهم التي ترمى هنا وهناك إلا إحدى مؤشرات التبديل في حالة اللاوعي كما يقول علماء النفس أو هي أشبه بتأثير انسلاخ الأفعى عن جلدها الذي يتبعه ظهور جلد مماثل له على الفور،ولكن بطريقة سفسطائية وتحت الأضواء الكاشفة!!
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC