المياه والسلام: الأمن المائي في الشرق الأوسط
الدكتور عبد الحسين شعبان
مقدمة
على الرغم من أن أزمة الخليج الثانية والتي نجمت عن احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 والحرب التي تبعتها في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 طغت على الاهتمامات السياسية الأخرى في الشرق الأوسط الاّ أن مشكلة المياه أو ما يطلق عليه “الأمن المائي والغذائي”، ظلّت إحدى الهواجس الكبرى المعلقة والتي تراكمت خلال العشرين سنة ونيّف الماضية، وليست ثمت مبالغة إذا اعتبرت إحدى المعارك الصامتة والمحتدمة في آن، التي تشهدها المنطقة منذ عقود من الزمان ليس لاحتمال بلوغها مرحلة الصدام العسكري المسلح فحسب، بل لأهميتها الإقتصادية وأبعادها السياسية الخطيرة وانعكاساتها على الأمن القومي العربي عموماً والأمن المائي والغذائي خصوصاً.(1)
إن مشكلة المياه التي ظهرت الى العلن بل طفت الى السطح، وتفاقمت على مرّ السنين، لم تحجبها أية معركة أخرى وظلت إحدى المشاكل المنذرة بحروب اقتصادية حقيقية، سواءً بمعناها السياسي أو الاجتماعي أو القانوني فضلاً عن احتمال تطورها إلى نزاع مسلّح، خصوصاً بالارتباط مع الجوانب الأخرى المشار اليها. وهذه المشكلة تشمل الأنهار الرئيسية التالية: دجلة والفرات والنيل وبانياس والليطاني ونهر الأردن، إضافة إلى شط العرب وملحقاته والمياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويدخل في نطاقها الدول العربية التالية: العراق وسورية ولبنان والاردن وفلسطين ومصر والسودان، وذلك إرتباطاً مع الدول المحيطة، لاسيما تركية وأثيوبيا وإيران، إضافة الى إسرائيل.(2)
إن التقديرات بكون مشكلة المياه هي إحدى الصراعات الموازية والتي يمكن أن تنشب بأية لحظة، باعتبارها لغماً غير موقوت، يمكن أن ينفجر حتى دون إنذار هو تقدير سليم، وربما يمتد ليصل الى جوهر الصراع في المنطقة ونعني به الصراع العربي- الصهيوني ولبّه القضية الفلسطينية. وقد تعاظم الأمر منذ نحو ثلاثة عقود ونيّف من الزمان بين تركيا وسورية والعراق، وكذلك بين العراق وإيران، إضافة إلى التعاقدات الإسرائيلية – الإثيوبية لبناء سدود على نهر النيل، واستمرار اسرائيل في الهيمنة على الجولان ومحاولتها استغلال مياه نهر الليطاني ومياه الارض المحتلة، وإقدام إيران على تحويل مياه نهر قارون وعدد آخر من فروع شط العرب إلى داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن تجدد مشاكل شط العرب، ولاسيما بخصوص الاتفاقية العراقية- الايرانية لعام 1975، وأخيراً وليس آخراً محاولة بعض الدول الأفريقية المستفيدة من منبع ومرور نهر النيل استغلاله دون مراعاة مصالح السودان وجنوبه بعد تأسيس جمهورية جنوب السودان ومصر يلحق ضرراً بالأمن المائي للدول العربية المتضررة فضلاً عن الأمن المائي على المستوى العربي.
ولعلنا نعني بالأمن المائي: القدرة الدائمة المستمرة في الحاضر والمستقبل، على توفير الماء غير الملوّث، الصالح للاستخدامات الإنسانية اللازمة للحياة على أن تكون هذه القدرة، غير مشروطة أو مهدِّدة لطرف خارجي طبيعي أو صناعي، وبكميات وطاقات تخزينية لمدة مناسبة للاستهلاك وبالقدرة على توفير خزانات محمية سياسياً وأمنياً وعسكرياً (3).ومثل هذا الأمر موضوع بالغ الحيوية والخطورة على قضية السلام في الشرق الأوسط.
إن مناسبة الحديث هذا هو ملتقى متخصص ساهم فيه خبراء دوليون وعرب إلتأم في باريس بدعوة من مركز الدراسات العربي- الأوروبي ومشاركة الغرفة التجارية العربية الفرنسية والمجلس العربي للمياه وجائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز العالمية للمياه. وانعقد تحت عنوان مثير وحيوي ” المياه: منبع للحياة أم مصدر للنزاعات في الشرق الأوسط”؟.
جدير بالذكر أن المركز الذي يستعد لإقامة احتفالية كبرى بمناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيسه سبق له وان انشغل بموضوع المياه منذ نحو عقدين من الزمان، وقد نظم مؤتمراً موسعاً في المغرب العام 1996 بعنوان ” الأمن العربي: التحديات الراهنة والتطلعات المستقبلية” كما أصدر كتاباً ضم العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية في العام ذاته بعنوان” الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية” دعا وناقش موضوع المياه في مؤتمر دولي نظمه في القاهرة في العام 2000 بعنوان ” الأمن المائي العربي”، ولعل ملتقى باريس الراهن هو استمرار لذات التوجّه، لاسيما وأن المنطقة تشهد ثورات شعبية تتوخى تكريس مناخ جدي من الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وهو ما أشار إليه رئيس المركز الباحث المستشار القانوني الدكتور صالح الطيار في كلمته الترحيبية عند افتتاح الملتقى، مؤكداً أن الجميع تابع تاريخ الصراع في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من 60 عاماً، وما له من انعكاسات سياسية واقتصادية وعسكرية، مشيراً إلى أن مسألة المياه تنذر بالتحول الى حروب أكثر دموية.
جدير بالذكر ان الاهتمام بمسألة المياه أصبح عالمياً بفعل ندرتها أولاً ومن ثم زيادة نسبة التصحّر والتلوث والتغييرات المناخية والبيئة، فضلاً عن محاولات تسيسها واستقلالها اقتصادياً، فضلا ً عن الاستقواء بها على حساب الآخرين، ولهذا عمدت الأمم المتحدة إلى إيلاء اهتمام كبير فيها وقد حددت يوم 22 آذار (مارس) من كل عام باعتباره اليوم العالمي للمياه منذ العام 1993، خصوصاً وقد أدركت يوماً بعد يوم شح المياه على المستوى العالمي، حيث تفيد دراسات معتمدة من جانبها إلى أن 1.5 مليار نسمة يعانون من عدم وجود مياه صالحة للشرب وأن نحو 3 مليارات نسمة آخرين ليس لديهم نظام صرف صحي، وأن ما يزيد عن 35الف شخص يموتون يومياً نتيجة النقص الفادح في موضوع المياه أو بسبب استخدامهم لمياه ملوثة أو غير صالحة للشرب. كما تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن 5.3 مليار نسمة أي ما يعادل ثلثي سكان العالم سيواجهون نقصاً فادحاً في المياه، بعد نحو عقد من الزمان، لاسيما في ظل التوزيع غير العادل للمياه بما فيه في كميات الأمطار وازدياد السكان، حيث تقدّر نسبة الزيادة سنوياً نحو 90 مليون نسمة وارتفاع نسبة استهلاك المياه وفي الوقت نفسه سوء استخداماته، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وارتفاع نسبة الاحتباس الحضاري وزيادة نسبة مياه البحار.
باختصار يعتبر الماء هو السلعة الجارية والنادرة، ولعل هذا ينطوي على مخاطر شديدة على الصحة والأمن والمستقبل، فضلاً عن انعكاساته على التنمية، ناهيكم عن أن نسبة 2.5% من كميات المياه في العالم هي مياه صالحة للشرب وهي نسبة ضئيلة جداً وهي تشح باستمرار، كما أنها في تناقص منذ قرن من الزمان، على الرغم من بناء السدود والخزانات والتقدم العلمي والتكنولوجي ووجود اتفاقيات دولية لتنظيم استخداماته من دول المنبع وصولاً الى دول المصب أو على الصعيد الداخلي.
ولعل الحق في المياه هو حق من حقوق الإنسان، وهو حق جماعي وحق فردي في الآن ذاته، أي حق كل فرد في الحصول على مياه نقية وبكمية مناسبة، كما أن حقه في الصرف الصحي، هو الآخر لا يمكن الاستغناء عنه، الأمر الذي يحتاج الى تنسيق أفضل على مستوى الموارد الخاصة بالطاقة مثل النفط والغاز والكهرباء وغيرها، فضلاً عن الحكامة الرشيدة.
وإذا كان قد قيل عشية الحرب العالمية الأولى وخلالها: أن من يملك النفط يستطيع السيطرة على العالم، فقد يبدو صحيحاً القول أن من يضع يده على منابع المياه ويتحكم بمساره وأسعاره ونقله وتوزيعه ورسومه، يستطيع أن يهيمن على العالم، وذلك لأن لا تنمية من دون مياه، ولا حياة صحية من دون الماء.
وجاء في القرآن الكريم: وجعلنا من الماء كل شيء حيّ، وهذا ما يؤكد أن الماء هو مهد الحياة والحضارة الانسانية، وهو مكوّن لا غنى عنه لجميع الكائنات الحية وهو في الوقت نفسه منتج الثروات ومطهّر الاجسام وملهم الانسان، لاسيما بالعلوم والفنون والآداب، ودائما ما تقام الحضارات والمدن على ضفاف الأنهار وبالغرب من سواحل البحار والبحيرات وتقوم على تنظيم قوانين وأعراف وتفصل في نزاعاته محاكم وقضاء.
-
إسرائيل والمياه
” المياه منبع للحياة أم مصدر للنزاعات في الشرق الأوسط؟”
منذ وقت مبكر جداً أدركت إسرائيل أهمية المياه في الصراع العربي- الصهيوني، حتى يمكن القول أن مستقبل الشرق الأوسط يتوقّف بالسيطرة عليها. وإذا قيل في الحرب العالمية الأولى “من يملك النفط يكسب المعركة”، وهو قول صحيح آنذاك، فيمكن القول أن “من يسيطر على مصادر المياه ويتحكّم فيها ويستثمرها هو الذي ستكون له اليد الطولى في الحرب المقبلة”. والمياه قد تكون الشرارة التي سيشعل فتيلها من يتمكن من وضع اليد عليها.
ويتبيّن اهتمام اسرائيل بجميع قواها وكتلها السياسية المختلفة بالمياه وهو ما تضمنه برنامج الليكود منذ وقت مبكر حول احتفاظه بالأراضي العربية المحتلة الذي كان يبرر أن نسبة تزيد على 50 في المئة من مصادر المياه العذبة المستهلكة تأتي من الضفة، وتضمنت برامج كتل أخرى فقرات مماثلة في انتخابات الكنيست لأكثر من مرة.
لقد دخلت إسرائيل موضوع المياه مباشرة من خلال المعركة التي بدأت في الستينيات عندما حاولت سورية التفكير بتحويل نهر بانياس، الذي ينبع من سفوح الجولان (أحد روافد نهر الأردن) وقامت بإطلاق تهديد مباشر لسورية إدراكاً منها لأهمية المياه على اقتصادها، الأمر الذي استدعى عقد القمة العربية الأولى عام 1964، وهي القمة العربية الأولى بعد قمة إنشاص التي إلتأمت في العام 1946.
ولإدراك إسرائيل أن الماء واحد من مصادر الطاقة الأساسية، فقد سعت الى تقديم خدماتها لأثيوبيا وقامت عبر شركة ” تاحال” بتقديم تصاميم ودراسات ولبناء عدد من السدود على نهر النيل في أثيوبيا، وقد تحركت باتجاهين الأول السعي لإعادة العلاقات الديبلوماسية التي ظلّت مقطوعة منذ العام 1967 ونجحت في ذلك،والثاني تزويد أثيوبيا بالسلاح لمواجهة “الثورة الارتيرية” في حينها، وما أن نجحت هذه الأخيرة وحصلت أريتريا على الاستقلال سارعت إسرائيل الى إقامة أوثق العلاقات معها، علماً بأنه بين عام 1967 وعام1973 قامت نحو 30 دولة أفريقية في قطع علاقاتها مع إسرائيل بسبب مواقفها العدوانية ضد الشعب العربي الفلسطيني لكن إسرائيل بدأت باستعادة تلك العلاقات، بل تعويضها منذ أن وقّع الرئيس المصري محمد أنور السادات على اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية الصلح المنفرد 1978-1979، وحتى أواسط الثمانينيات استعادت إسرائيل جميع علاقاتها المقطوعة، بما فيها مع الدول الاشتراكية السابقة (أواخر الثمانينيات).
ومن خلال علاقتها مع أثيوبيا عملت إسرائيل على تقديم مساعداتها وخبراتها لبناء السدود. أما فيما يتعلق بتركيا، وهي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل منذ العام 1949، فقد ظلّت علاقتها وطيدة بها وخصوصاً في مجال المياه.(4) على الرغم من تدهور العلاقة مؤخراً، خصوصاً بعد حصار غزة وإعلان الحرب عليها 2008-2009 وفيما بعد مهاجمة إسرائيل أسطول الحرية، وقتل 9 من الأتراك كانوا ينقلون مساعدات إنسانية على ظهر السفينة مرمرة، واضطرار تركيا الى مطالبتها بالاعتذار الرسمي وتخفيض العلاقات الى مستوى سكرتير ثاني بدلاً من سفير (5).
لقد اهتمت إسرائيل منذ أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات بالمياه وأولتها مكانة خاصة في ستراتيجيتها، في وقت أن معركة المياه تزامنت مع تدفق الآلاف من اليهود السوفييت الى اسرائيل التي تريد إسكان قسم منهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهو الذي دفع شامير يومها للحديث عن ضرورة الاحتفاظ بهذه الأراضي وعن “دولة اسرائيل الكبرى”.
ومع مقدمات حرب الخليج وما بعدها، قامت إسرائيل بمحاولات سطو “دولية” على نهر الأردن، وسعت الى سرقة مياهه وسيّرتها بموازاة الساحل الجنوبي بهدف إرواء صحراء النقب. كما أقدمت بعد حرب العام 1967 على سحب المياه الجوفية من الأراضي المحتلة، وحالياً فإن أكثر من (ستون 60 في المئة) من مياه نهر الاردن تذهب الى اسرائيل في حين لم يتجاوز ما كانت تستفيد منه من حوض النهر “عبر أراضيها” أكثر من 3% (ثلاثة في المئة) ثم أقدمت اسرائيل على سرقة أخرى وذلك بالاستيلاء على مياه نهر بانياس عام 1967 وهو الذي يفسر تمسكها الشديد، بمرتفعات الجولان.
وكانت إسرائيل قد وضعت عينها على نهر الليطاني اللبناني، وفي العام 1978 أطلقت إسم الليطاني على غزوها للبنان والجنوب اللبناني بشكل خاص. جدير بالذكر أن طول نهر الليطاني يبلغ 170 كلم ويقطع أكثر من نصف طول لبنان من الشمال الى الجنوب ثم يتحول الى الغرب، ويصب فيه 16 نهراً ونبعاً، ومياهه أفضل أنواع المياه بالمواصفات والجودة، ونحو 80% منه يقع في سهل البقاع و20% يمرّ في الجنوب، ويصب في البحر على مسافة 8 كيلومتر شمال مدينة صور، وهذه المياه هامة لإسرائيل وضرورية لتزويد الجليل المحتل بالمياه بدون ضخّ مكلف وكان ذلك أحد أهداف الغزو الاسرائيلي للبنان واحتلال العاصمة بيروت العام 1982 (6).
أما بخصوص الجولان فظلّت القوى الصهيونية تردد “الجولان أبو فلسطين” لأنها تضم مياه نهر الحاصباني وبانياس والوزان والدان والأردن واليرموك وبحيرة طبريا ومساحة الاحتلال حوالي 1200 كلم2، وكانت زيارة ليبرمان الأخيرة تأكيداً جديداً على التمسك الاسرائيلي بالجولان بعد قرار ضمها الذي اتخذه الكنيست العام 1981.(7) وهي جزء لا يتجزأ من استفزاز ليبرمان والمجتمع الدولي على نحو مثمر، وهذه المرة تأتي عشية مطالبة فلسطين الأمم المتحدة الاعتراف بها، مثلها مثل مسألة القدس الشرقية، فعشية تقديم طلب الحصول على عضوية دولة فلسطين أقرّت إسرائيل مشروعاً استيطانياً جديداً ببناء مئات الوحدات السكنية في القدس الشرقية..
أثيوبيا- إسرائيل: القفز فوق الحواجز
في خبر لم يلفت الانتباه عربياً، تناقلت الصحف خبر قيام شركة تاحال (الاسرائيلية) بأجراء دراسات على التربة في أثيوبيا للبحث في إمكانية بناء ثلاثة سدود بالقرب من بحيرة تانا ونهر ” آباى” أحد روافد نهر النيل. وقالت صحيفة ” الاندبيندنت” البريطانية في حينها، إن انشاء السدود الثلاثة سيؤمن لأثيوبيا القدرة على التحكم بمياه النيل. هكذا أريد للخبر أن يمرّ من دون إثارة ضجة مثل فضيحة اليهود الفلاشا.
ولا شك أن بناء السدود في مجرى النيل الذي يمر عبر أراضي أثيوبيا، في طريقه الى مصر والسودان بمساعدة اسرائيل، سيمكنها من إيجاد مرتكزات جديدة لها في البحر الأحمر، خصوصاً وأنها تستأجر جزيرة دهلك وتقيم عليها قاعدة عسكرية، فضلاً عن الضرر الذي سيلحق بمصر والسودان، فالنقص في مياه النيل وصل في العام 2000 الى حوالي 800 مليون متر مكعب في السنة.
ولعل وصول اسرائيل الى منبع النيل الأزرق، يعني تحكمها بمصادر المياه، إذ سيكون تحت تصرف أثيوبيا 82% (إثنان وثمانون في المئة) من مياه النيل. ويعتبر نهر النيل من أطول الأنهار في العالم، يبلغ طوله 6695 كلم، ويمرّ باراضي مصر والسودان واثيوبيا وأوغندا ورواندا وبوروندي وكينيا، وكمية مياهه سنوياً 92 بليون متر معب، وتحتاج مصر لوحدها حالياً 55 بليون متر مكعب، وسوف تزداد الحاجة الى نحو 75 بليون متر مكعب خلال السنوات العشر المقبلة، كما يقدر الخبراء.(8)
إن قيام شركة تاحال الاسرائيلية ) لتطوير وتخطيط المصادر المائية والخبرات الزراعية) وقيامها بمشاريع وأعمال إنشائية في أثيوبيا لحساب البنك الدولي، وكذلك في إقليم أوغادين على حدود الصومال، وقيام خبراء اسرائيليين بعملية مسح لمجرى النهر وبناء سدود على النيل الأزرق، يستهدف محاصرة مصر بالدرجة الأولى وتعريض اقتصادها وحياتها البيئية للخطر، فضلاً عن إلحاق أضرار فادحة بالملايين من السكان. والتعاون الاسرائيلي- الأثيوبي يأتي تتويجاً لاتفاق سري بين الطرفين، إذ قدمت إسرائيل القنابل العنقودية وطائرات (الكفير) للجيش الأثيوبي، فيما سمحت أثيوبيا باستئناف هجرة اليهود الفلاشا الى إسرائيل.(9) ولعل هذا الأمر تطور في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وهو ما سنخصص له بحثاً خاصاً.
في الخمسينيات أطلق بن غوريون تعبيره الأثير بضرورة القفز فوق الحواجز، لتكوين الحزام المحيط والمقصود بالحزام المحيط أطراف الوطن العربي أثيوبيا وتركيا وإيران. ومنذ عقود واسرائيل تبني خططها لتكوين الحزام المحيط. ينقل ميخائيل بارزو حار (كاتب سيرة بن غوريون) بعضاً من محاولات إسرائيل لإيجاد رابطة دفاعية بينها وبين الدول الثلاث حليفات الولايات المتحدة، خصوصاً بعد حصولها على تصريح من واشنطن ولندن وباريس، بضمان حدودها عام 1950 وسعيها للانضمام لحلف الناتو عام 1951 واضطلاعها على نحو “بارع” بالمهمات الموكولة اليها على أحسن وجه.(10) ثم سعت إسرائيل الى توقيع إتفاقية خاصة مع تركيا واثيوبيا ” إتفاقية ميثاق المحيط” The peripheral pact treaty العام 1958 وعُرفت باسم اتفاقية ترايدنت أو الرمح الثلاثي ضد مصر وسوريا والعراق وهو ما سعى اليها بن غوريون(11).
اعتبر بن غوريون في الستينيات خشية أثيوبيا من سياسة عبد الناصر “التوسعية” تدفعها للانضمام الى الحلف، وعداء تركيا التقليدي للأمة العربية (العدو العربي) يجعلها مقتنعا بفكرة الحلف واشتباك إيران مع أكثر من طرف عربي في صراعات إقليمية (إضافة الأطماع التاريخية) يجعلها متحمسة له، كل هذه العوامل يمكن أن تكون حزاماً محيطاً بالأمة العربية! ويمكن الإشارة هنا إلى العلاقات الإسرائيلية–الأثيوبية قد تعززت وتوطدت فضلاً عن تعاظم حجم التبادل التجاري والتعاون السياسي والمخابراتي، فضلاً عن استثمار الحرب العراقية- الإيرانية، حيث كانت إسرائيل المستفيد الأول من اندلاعها واستمرارها، فقد سعت للتقرب من إيران في موضوع بيع السلاح فيما سمّي بإيران غيت، لكن العداء ظل مستحكماً بين إيران ما بعد الثورة 1979 وحتى الآن. وازداد الأمر سوءًا إصرار إيران على امتلاك السلاح النووي، حيث اعتبرت اسرائيل أن ذلك تهديداً مباشراً لها.
أما أنقرة فقد اضطلعت بدور مميز لا تستطيع حتى إسرائيل القيام به، خصوصاً وأن وجود الأخيرة خطر بالنسبة للعالم العربي، إضافة الى ما تتمتع به تركيا من مزايا سواء بسبب وضعها الجغرافي والجيوبوليتيكي والموقع الستراتيجي والقوى البشرية والامكانات الاقتصادية وغيرها، فضلاً عن ذلك فتركيا ” دولة إسلامية” حكمت البلدان العربية وغيرها أكثر من 4 قرون ونيف من الزمان وتمتلك ترسانة ضخمة من السلاح وهي بلد مترامي الأطراف (فقد منح العامل الجغرافي تركيا سيطرة على آسيا الصغرى والمضايق، التي تشكل معاً حلقة الوصل بين دول البلقان ومنطقة الشرق الأوسط، كما منحها أهمية استراتيجية تعود قبل أي شيء آخر الى حدودها الشمالية الشرقية مع الاتحاد السوفييتي (سابقاً مع تأثيراتها في الصراع القائم حالياً) وحدودها الجنوبية مع سورية 877 كلم والعراق 331 كلم وإيران إضافة الى ذلك فإن المنطقة الشمالية الغربية من البلاد تعد موطئ قدم تركيا الوحيد في أوروبا 269 كلم مع بلغاريا و212 كلم مع اليونان. إضافة الى أن عدد نفوسها كبيراً، كما تمتلك خبرة كبيرة في ميدان “القمع الداخلي والخارجي”. وقد تجلّى الدور التركي مؤخراً من خلال الربيع العربي سواءً في ليبيا أو سوريا، إضافة الى مصر، وبقدر إيجابيته، لكن وجهه الآخر كان أطلسياً، فقد تحاقب نصب دروع صاروخية على الأراضي التركية في غمرة انشغال العالم بتداعيات الربيع العربي.
تركيا: مشروع الغاب والمشكلة المائية