لا شك أن الأفكار تهاجر من بلد إلى آخر، مثلها مثل البشر، وتنتقل، من بلد إلى آخر، وقد تجد قبولا عند هجرتها وقد ترفض أحيانا، حسب الاقتناع بهذه الأفكار التي تفد إلى عوالم إلى أخرى،ويرى العلامة تقي الدين ابن خلدون يرى أن تقبل بعض الأفكار، تأتي في حالة ضعف الأمم، وتراجعها الحضاري، وهزيمتها العسكرية، ومقولته الشهيرة تعزز ذلك الرؤية الخلدونية أن( المغلوب مولع باقتداء الغالب)،وهذا فيه الكثير من الصحة، لكن ظهر شئ نادر الوقوع في التاريخ الإنساني، وهو أن الغالب يسلّم بفكر المغلوب،وينصهر فيه، فعندما هجم التتار على البلاد الإسلامية، واحتلوا بغداد ومصر والشام وجزء من العالم الإسلامي آنذاك، فإنهم أسلموا، وذابوا في المحيط الإسلامي،وهذا تعتبر هجرة لأفكار جاذبة للأخر الغالب،وانتصار لفكر المغلوب، وهذا من الحالات النادرة في التاريخ.
في كتابه ( أفكار مهاجرة)، للدكتور/ علي أومليل، الصادر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربيةـ بيروت، في مقدمة هذا الكتاب،أن البشر يهاجرون أيضا ، لكنها هجرة معاكسة لهجرة الأفكار. تهاجر الأفكار لأنها مطلوبة، ويهاجر البشر لأنهم طالبو هجرة لضرورات العيش، وأيضا لأن بريق أحلام يجذبهم. ملوا العطالة والأيام المتشابهة والجولان في الطرقات من دون هدف أو الاستناد الى الحيطان. حياة بلا جدوى كمن يطحن الماء.
في الفصل الأول[ في الإصلاح المقارن اليابان والصين وبلدان إسلامية] يشير الكاتب علي أومليل، أن دوافع الأفكار الإصلاحية لم تكن بفعل ” دينامية داخلية ، بل لمواجهة خطر خارجي ، أي التهديد الاستعماري . وباستثناء اليابان ، التي لم تعرف غزواً إلا في عصرها الحديث ، عرفت الصين وبلاد العرب والمسلمين في ماضيها أنماطاً من الغزو الأجنبي . وكانت هزائمها أو احتلالها راجعة إلى خلل عسكري . أما الغزو الغربي الحديث فقد أنتج وعياً لدى الإصلاحيين عندنا وعندهم أن وراء القوة العسكرية للغرب تفوقاً علمياً و تقانياً ، وتقدماً اقتصادياً ، وتنظيماً للدولة ومؤسساتها ، ونظاماً للحقوق والحريات .
الأول ، يعود إلى الموروث ويعود تأويله لأغراض الحاضر ، ويرى في هذه العودة جواباً عن التحدي الحضاري للغرب .
والثاني يرى أن حضارة الغرب صارت حضارة عالمية ، بنظمها وتنظيماتها وقيمها ، لذلك ينسخ الخاص بالإنساني العام ، والمعايير أصبحت إنسانية واحدة ، العقل والعلم والحرية والكرامة . هذا الاتجاه كان أصحابه أقلية عندنا وعندهم ، ولذلك سببان : الأول ، لأن الذين قالوا بعالمية الحضارة الغربية سرعان ما يرد عليهم بأنهم يطابقون بين التحديث والتغريب ، وأن الغرب هو الذي رفع خصوصيته التاريخية ليجعلها عالمية . والسبب الثاني هو أن الغرب غربان : غرب دولة القانون والحريات ، والغرب الاستعماري ، إذ إن الاستعمار هو نفي كلي للحريات وحقوق الإنسان في البلدات المستعمرة ، ولعل ما يفسر أن ” الليبراليين ” عندنا كانوا تصالحيين في موقفهم من الاستعمار ، أنهم كانوا يأملون في تفاهم وتعاون معه ، ويعولون على الإصلاح التدريجي ، ويدعون إلى استقلال في ترابط مع الغرب ، وبخاصة مع الدولة التي استعمرتهم .
في الفصل الثاني [ المفكرون العرب والأنوار] يرى أومليل أن الفرق بينهما، أن مفكري الأنوار قاموا بتخليص الدين من الخرافة ووصاية الكنيسة الوسيطة بين الله والناس ، وقالوا بـ “الدين الطبيعي” الذي هو إيمان فردي بألوهية خالصة لا تحتاج إلى وساطة الكنيسة ، ولا إلى الشروح التيولوجية ، والعقيدة الرسمية للكنيسة (الدوغما) ، دين ينسجم فيه الإيمان بالإلوهية مع العقل وقوانين الطبيعة . في المقابل لم يقل الإصلاحيون المسلمون بشي من قبيل الدين الطبيعي ، بل بدين ” الفطرة”, أي الإسلام ، بمعنى أن هناك إسلاماً خالصا تراكمت عليه صنوف التقليد ، فاستقرت الشروح والمذاهب والطرقية كسلطة قائمة الذات ، فكان لابد من تجاوزها بالعودة إلى إسلام ” الفطرة” ، ليس كفطرة الفرد المسلم حين يتخلص من تراكمات التقليد وحسب ، بل فطرة أي إنسان يعود إلى فطرته الخالصة.
لكن الفطرة الإسلامية ليست هي الطبيعة عند المفكرين الغربيين ، فنحن بعيدون من هذا الإنسان الطبيعي المفترض عند أصحاب العقد الاجتماعي ، الذين افترضوا أنه بعد التجرد من كل المضاف الاجتماعي الذي رسخ بالعادة والتربية المجتمعية والسلطة ، فإن أفراد المجتمع يبنون هم مجتمعهم المدني السياسي انطلاقاً من حريتهم كأفراد وبتعاقدهم الإرادي العام . لذلك لا يمكن الحديث لدى الإصلاحيين المسلمين عن إنسان الطبيعة ، بل عن إنسان الفطرة المتقبل تلقائياً للدين ، أي للإسلام . فالإنسان إذا ترك لفطرته لا يمكن إلا أن يكون مسلماً ، فالإنسان الملحد ليس إنساناً سوياً .
في الفصل الثالث: [ استثنائية الغرب] فقد ناقش علي أومليل على مسألة مركزية الغرب تجاه الأخر الشرق( الاستشراق)، ناقدا النظرة الاستعلائية عند عالم الاجتماع المعروف، ماكس فيبر ويقول: ” حين كان فيبر يصوغ نظريته عن الغرب المتفوق المتفرّد كان الغرب مستعمراً معظم بلدان العالم، مهيمناً على التجارة العالمية، محتكراً شبكة الاتصالات والمواصلات الحديثة التي اخترعها وربط بها أقطار المعمورة إليه، ومالكاً السلاح المتطور والتقانة المتقدمة. لذلك كانت صورة الغرب عند فيبر تعكس واقع حال الغرب وعلاقته ببقية العالم آنذاك.”
مشيرا أن الاهتمام بالشرق أيضاً وسيلة غير مباشرة لنقد النظم الاستبدادية في أوروبا. فمنذ القرن الثامن عشر صاغ مفكرون أوروبيون – اعتماداً على وصف الرحالة لبلدان الشرق التي جابوها – نظرية “الاستبداد الشرقي” والتي كان منظّرها الأكبر مونتيسكيو، وذلك لنقد الملَكيات المطلقة في أوروبا. ومع ذلك يظل عندهم الشرقُ شرقاً والغربُ غرباً حتى في درجة الاستبداد.
لكن هذا الاطمئنان الغربي على مكانة الغرب ، و نموذجيته قد أخد يتغير الآن ، فإذا كان كتبا غربيون مازالوا على اعتقاد راسخ في عالمية قيم الحضارة الغربية فقد صاروا نافضين أيديهم من اقتداء بقية العالم بها . صاروا قلقين من صعود أمم قوية حريصة على خصوصياتها . لذلك فهم ينادون بضرورة أن يحصن الغرب ذاته ضداُ على ما أصبح يهدده من الداخل ومن الخارج ، على الغرب إذاً أن يدافع عن قيمه ولو بالقوة كما يوصي بذلك نيمو السالف الذكر !
الملاحظ هو أن الذين يتشددون في الدفاع عن هوية الغرب يلتقون مع غلاة الإسلاميين . فالهوية التي يدافع عمها أولئك وهؤلاء هوية مغلقة، متوحشة، وهو ما يدفع إلى العدوانية كما تفعل الدول الغربية التي تشن الحرب على بلدان أخرى بدعوى مكافحة الإرهاب، وهو ما يفعله الإسلاميون المتشددون بإعلان الجهاد على العالم وعلى مجتمعاتهم.
ومن هذا القبيل ـ كما يرى أومليل ـ جرى فرض خيار واحد على المواطنين في البلدان الغربية ذوي الأصول الإثنية والثقافية غير الأوروبية . إن عليهم محو خصوصياتهم والإنصهار في بلد الاستقبال ، فلا يبقى أمامهم سوى الانكفاء على خصوصياتهم في مجتمع الأغلبية ليعيشوها على هامشه مع طوائفهم . هم يكتسبون الجنسية ولكنها لا تعني المواطنة الفعلية ، ماداموا يعاملون كالغرباء داخل مجتمع الأغلبية .
في الفصل الرابِع[ هل الفرد اختراع غربي] يرى المؤلف أن الغربيين يرون أن مفهوم الفر دانية من حيث وجود الشخصية الاعتبارية للفرد وحقوق الإنسان والعقلانية ومبدأ الحرية الخ: لكن هذه المقولات، فيها نوع من الزهو والشعور بالمكانة لما حققه الغرب في ميادين كثيرة، وهذا صحيح، لكن المجتمعات دخلت فعليا في صيرورة الديمقراطية تواجه الكثير من التحديات، لكن الرهان الأهم في حقبة ما بعد الثورات العربية ليس ديمقراطية الانتخابات، وإنما حرية التعبير، وشرعية المعارضة المساواة والحريات الشخصية والمواطنة، وسيكون ذلك تعميق للديمقراطية الحقيقية.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC