اللغة الشعرية
د. عارف الساعدي – العراق
تفرش “اللغة المقالية” جناحيها وتظلل كثيراً من مساحات النقد في العراق، على الرغم من ارتباط اللغة المقالية بمرحلة معينة من مراحل النقد في العراق، إلا إنه ما يزال عدد من النقاد يدورون في فلك هذه اللغة، وبما أن “اللغة المقالية” لم تكن على حالٍ واحدة، وقد تعددت أنماط الأداء اللغوي ضمن الحاضنة الكبيرة، ويبدو أن جذور الرومانسية أنبتت لغة خاصة في تناول النصوص الإبداعية وتحليلها، هذه اللغة تفيض غنائية ورومانسية وشعرية نستطيع أن نطلق عليها “لغة النقد الشعرية”، وهذا المفهوم نابع من التطور الذي حصل لمفهوم “الشعرية” وتحولاتها النقدية من المفهوم المحصور بـ(القصيدة) إلى معانٍ أوسع وصلت حد القول بشعرية الموسيقى وشعرية الرسم، حتى أصبحت تحتوي اليوم شكلاً خاصاً من أشكال المعرفة بل بعداً من أبعاد الوجود([1])، والشعرية لا ترادف القصيدة في نظرية الأدب، وبسبب وجود نقاد لا يتحدثون عن الشعر إلا بالشعر “وكثير من النقاد يفضلّون ألا يتحدثوا عن الشعر إلا شعرياً، ولا تعدو شروحهم وتفسيراتهم أن تكون غير قصيدة ثانية توضع فوق القصيدة الأولى، أي غنائية على غنائية”([2])، وليس الأمر مرتبطاً بالقصيدة وتحليلها، إنما يتعدى إلى المفاهيم النقدية والجدل الذي يدور حولها.
إن هذه اللغة الشعرية في النقد تمتلك ميزتين، كل ميزة تختلف عن الأخرى، الأولى هي تلك الطراوة في اللغة والتي تمنح المتلقي هامشاً من الاستمتاع بالقراءة النقدية، والثانية أن مثل تلك اللغة تملك معجماً فيه عبارات لا طائل ورائها لأنها غير واضحة ولا قابلة للفحص، ثم تجعل مما هو مشكل سراً خفيّاً([3]).
إن الحديث عن هذه اللغة في النقد العراقي قد يثير بعضاً من الأسئلة، منها أن هذا المبحث قريب من اللغة الرومانسية، فلماذا لم يدخل معها بمبحث واحد، نقول: إن اللغة الشعرية التي نحن بصددها تختلف عن “اللغة الرومانسية”، إذ أن هذا المبحث مخصص لناقد واحد امتلك نقده خصائص الشعرية في اللغة النقدية، من خلال اعتماد لغته النقدية على الانزياح في كل مفاصل ومحاور النقد، ذلك هو الناقد الدكتور علي جعفر العلاق والذي يرى بعض النقاد إن نصه النقدي “يستقبل النصوص الشعرية بمرآة حسّاسة من الإدراك والفرز وتلمس جماليات الشكل والبناء مستفيداً من خبرات تجربته الشعرية ومنحازاً لقيمها في إيثار اللمح والتكثيف وسرّية الهاجس وتركيز البناء”([4])، إذ نجد إن أغلب كتب العلاق النقدية محتفلة بهذه اللغة ذات البناء الشعري، ولا تخلو دراسة من دراساته أو بحث من بحوثه أو مقالة من مقالاته من هذه اللغة التي يطالب العلاق بألا تكون لغة النقد لغة عادية وألا يكون نثرها “محروماً من بهاء اللغة، وسعيرها المحتدم بالمجاز…، والحلم والرغبة بل هو “لغة جياشة لقوى الابتكار والهدم، والتفاؤل، والإضافة”([5])، ولهذا يرى بعض الباحثين “إن اللافت للنظر عند قراءة مجمل أعمال علي جعفر العلاق النقدية هو صفة الشاعر التي تتملّك لغته النقدية الصافية والمتأججة..”([6])، وبهذا يكون النقد عند العلاق في كل تفاصيله خلقاً أدبياً([7])، إذ يحمل العلاق لغة نقدية خاصة “تحفل بلطائف الأدب حيناً، وتعتمد المداورة واللعب الأخاذ حيناً آخر”([8])، ومن هذا النص المجتزأ للعلاق من الممكن الدخول إلى مفاتيح لغة العلاق النقدية الحافلة بالمجازات والانزياحات، لذلك شكلّت كتابات العلاق ظاهرة تستحق الوقوف من خلال شعرية النقد.
إن أول محطة يمكن أن تفحص من خلالها اللغة النقدية التي تتحول من “نقد الشعر” إلى “شعر النقد” هي عنوانات كتبه النقدية إذ نجد “مملكة الغجر، دماء القصيدة الحديثة، ها هي الغابة فأين الأشجار، قبيلة من الأنهار…الخ”.
حين نقف مع عنوانات كتب العلاق نكون بإزاء عنوانات هي أقرب إلى عنوانات المجاميع الشعرية وذلك من خلال اعتمادها على المجاز ولاسيما الاستعارة ومنها “مملكة الغجر، ودماء القصيدة الحديثة”، وهي مفتتحات شعرية قابلة للقراءة والتأويل كأي جملة شعرية مستلة من قصيدة تحمل شحنتها الانزياحية وطاقتها الكامنة لاستقبال التأويلات والقراءات المتعددة، إذ لا يمكن لتلك العنوانات أن تحدد إتجاهها بشكل واضح بسبب طاقتها الشعرية التي تلبست تلك العنوانات، وحين نعبر العتبة الأولى من عنوانات الكتب النقدية إلى متن تلك الكتب وإلى لغة النص النقدي ذاته، فإننا سنكون بإزاء لغة متفردة وخاصة، حيث يشتغل نص العلاق النقدي على مجموعة من المفردات التي تتكرر وتتناوب فيما بينها، لذلك فإن المعجم النقدي هو أوضح محطات العلاق النقدية، فعلى سبيل المثال كتابه “في حداثة النص الشعري” يتألف معجمه من مجموعة من المفردات تدور وتتكرر، فدائماً بين سطر وآخر تتكرر هذه المفردات “سحر، جمرة، غواية، غيم، خضرة، غامض، توتر، نار، حلم، حنين، شهوة، جنون، بهجة، دهشة، فتنة، مطر، أمواج،…”، كما إن هذه المفردات ليست مقصورة على هذا الكتاب الذي ذكر، وإنما على مجمل كتب العلاق ونقوداته التي تشيع فيها هذه المفردات بشكل واضح.
إن المتأمل لهذه المفردات سيعتقد أول الأمر إنه إزاء مجموعة شعرية، إلا إن الواقع يقول إن هذه المفردات هي الأحجار التي يبني منها العلاق نصّه النقدي حتى وصل الأمر أن يكرر في الفصل الأول من كتابه هذا مفردة “سحر” ثلاثة عشر مرة، ومفردة “خضرة”، و”جمرة”، و”غامض”، عشر مرات، كذلك تتكرر مفردة “توتر” سبعة مرات، فالعلاق يقول: “إن ٍالشعر، حين يحكم صلته بالعالم الحسّي، على هذا المستوى، أي مستوى الحلم والسحر والحنين، فهو يستوعب أجزاء هذا العالم ويحتضنها بقوة الشهوة، والجنون، والرؤيا…)، إذاً نحن إزاء هذه المفردات “سحر، حنين، شهوة، جنون، حلم، رؤيا”([9])، هذه المفردات كلها في مقطع نقدي لا يتجاوز الثلاثة أسطر، وواضح ما تحمله هذه المفردات من حسّاسية شعرية عالية، ذلك أن كل مفردة تشع بذاتها وتحمل طاقتها الشعرية بالإضافة إلى إسنادها لتراكيب شعرية مما نخلص له إن هذا النص النقدي يباشر النقد بروح شعرية رومانسية غنائية حيث تحمل هذه المفردات معجماً خفيف الوقع على الذائقة يغري بالقراءة وبالتواصل مع النص النقدي ولكن اللغة الشعرية في النقد حين تخضع للذائقة الأدبية، والاعتماد على جمال اللغة، وبلاغتها، وزخرفها، فإن ذلك “يعني مباشرة النقد الحديث برؤية أدبية أو إنشائية..”([10])، لهذا فإن “اللغة المقالية” تتجلى بشكل واضح في كتابات العلاق النقدية ولكنها ليست لغة انطباعية سائبة، إذ ابتعد نص العلاق النقدي عن لغة الانطباعيين وإحالاتهم الذاتية غير المبررة واكتفى نصه النقدي – دائماً- بالوصف وهذا يقربه من المناهج الحديثة في معاينة النصوص والمفاهيم الأدبية، ولكن الذي يصنّف نص العلاق النقدي ضمن حاضنة “اللغة المقالية” هي اللغة التي يكتب بها نقده، فلغته النقدية مشحونة بطاقة شعرية تجعل الالتفات للنص النقدي أكثر من الالتفات للنص الشعري أو السردي أو المفهوم الأدبي بشكل عام، ويدل على ذلك معجمه الذي يحمل مفردات “تخبئ في ثناياها تعدداً دلالياً نابعاً من تعدد أبعادها المكتسبة”([11])، فمفردات مثل السحر، الشهوة، التوتر، الحلم، الغموض…الخ تحمل بعداً شعرياً وتنسج سقفاً ذا دلالة شعرية يهيمن على السقف النقدي، وبذلك يصبح النص النقدي ضمن هذه الرؤية وبسبب اللغة المستخدمة نصاً زئبقياً لا يمكن الإمساك به حقيقة معرفية بسبب طبيعة اللغة المستخدمة في بناء النص النقدي، وحين يمتد الفحص النقدي لنص العلاق فإنه يسافر خلف اللغة وغوايتها ولا يمسك القارئ شيئاً من الذي يريد قوله سوى لعبة لغوية تثير الدهشة إثناء القراءة ومن تلك النصوص، نص للعلاق يتحدث فيه عن الشاعر فيقول: “الشاعر في مفهوم الرؤيا الحديثة، ليس وصّافا، أو مراقباً، أو معلقاً على ما يراه، إن هؤلاء جميعاً يقفون على مبعدة من شهوة العالم أو بهجته المباشرة في منأى عن رذاذ الدم والأنين الذي يتطاير من قلبه المهشم، وعينيه المطفأتين فهم يلمحون العالم ويبصرونه…إن مساحة ما، مضطربة وباردة، تظل تفصلهم عن نبض العالم وناره، عن أتون التجربة الحقة”([12])، في هذا النص توصيف للشاعر الذي يصف الأشياء فقط ولا يدخل في تجربة ما في هذا العالم، لكن هذا الوصف جاء بنص نقدي مشحون بالانفعال الشعري من خلال مفردات وتراكيب شحنت الجمل النقدية بالشعرية “شهوة العالم، بهجته، رذاذ الدم، قلبه المهشم، يلمحون العالم، نبض العالم،…”، وهذا النص يدور حول مفردة واحدة هي “العالم” ويبدأ الناقد ينوع على هذه المفردة! إذ نجد شهوة العالم وبهجة العالم وقلب العالم وعيني العالم ولمح العالم ونبض العالم ونار العالم، وكل هذه التنويعات تقترب من الشعر وتبتعد عن أروقة النقد، إذ أن اللغة الشعرية تغري الناقد في الدوران بفلكها، ولكن بالنتيجة تمس مسّاً خفيفاً ولا تؤشر بوضوح وعلمية دقيقة إلى ما يصله النقد من نتائج لأن النتائج الدقيقة تحتاج إلى مقدمات واضحة غير ملتبسة ولكن بسبب زئبقية المفردات والتراكيب، فإن الشعر هو المهيمن على النقد، لذلك تحول مفهوم نقد الشعر إلى شعر النقد بسبب طبيعة اللغة التي يستخدمها العلاق، وللاقتراب أكثر من النص النقدي وفحصه نقدياً تبرز مجموعة من الأسئلة منها، ما دلالة شهوة العالم وما نبض العالم وما أتون التجربة الحقة…الخ، إن هذه الاستعارات كلها تدور حول “الشاعر” الذي يصفه العلاق من دون أن يؤشر بوضوح “من هو الشاعر” إلا أن اللغة النقدية تغوص أكثر وتتلاشى أولى خطوطها التي من الممكن أن تشير إلى ما يريده الناقد معرفياً ذلك حين يصف بعض الشعراء الذين يقفون على مبعدة من “شهوة العالم” فبسبب هذا التركيب الشعري القابل للتأويل وللقراءات المتعددة المنفتحة الدلالات ارتدت الدلالة التي يعالجها ضباباً أكثر إذ تلبس الشعر روح النقد ومنح النص النقدي انفتاحاً تأويلياً بسبب اللغة الزئبقية التي تشع المفردة الواحدة أو التركيب الواحد بأكثر من دلالة مما تتعدد بذلك زوايا النظر للنص النقدي على أنه نص قابل لأن يقرأ من وجوه متعددة ذلك لأنه “يقدم مداخل إلى عوالم النص دون الكشف عن جوهره أو حقيقته النهائية، لأنه وبكل بساطة ليست هناك حقيقة نهائية يقدمها النص الأدبي بل يقترح مقاربات باتجاهها”([13])، ولكن على هذه المقاربات أن تكون واضحة ومحددة، وبعكس هذه الطريقة كتب العلاق نقده، إذ إن مقارباته غير واضحة تتلبسها الشعرية العالية، إيماناً من العلاق بأدبية وإبداعية النقد وهذا الأمر – ربما – يضيف للنقد إضافات مهمة وذلك بالمساهمة بنقل النقد أو نقل لغته من اللغة الثانية التي تعتاش على هامش النص الإبداعي إلى لغة أولى تكتفي بذاتها وهذه الطريقة لازمت لغة العلاق النقدية، ولكن لغته في بعض الأحيان لا تكتفي بإبداعية اللغة النقدية وشعريتها، فيتعدى النص النقدي مناطق النقد وحتى الشعر ويقطع حبال الوصل بالمعرفة النقدية إذ تتحول اللغة النقدية في هذه اللحظة إلى فراشة يغريها لهب الاستعارات والانزياحات فقط، ونجد ذلك في حديث العلاق عن اللغة الشعرية ذاتها فيقول “ففي هذه اللغة، وعبر بنائها الجليل الآسر، يمكن العثور على جمر الروح، وأحجار الدلالة الساطعة والرؤيا… إنها خضرة فردية خلابة تندلع في خشب اللغة، وأشجارها المعمرة، فتنبعث فيها الورق، والضوء، والجنون”([14])، إن مثل هذا النص النقدي يدعو إلى التساؤل عن الفرق بين الشعر والنقد أو أننا نستعير سؤال “حسين خمري” عندما سأل ما الذي يميّز النصين الأدبي والنقدي؟ وأجاب بأن عنصر التمايز هو أداة مشتركة بينهما وهي “اللغة” وكيفية التعامل معها، فاللغة في النص الأدبي تتجلى من خلال الاشتغال عليها ذاكرةً ومفردات، مجازاً أو استعارة، ومن ثم يخلق النص منطقه الخاص، بينما النص النقدي يتعامل مع اللغة تعاملاً منطقياً معيارياً والمفردات بالنسبة إليه هي عبارة من استعمالات وظيفية أداتية([15])، من زاوية النظر هذه، فإن وظيفة النقد هنا تبدو غير واضحة بسبب اللغة النقدية، فحين يحاول العلاق أن يضع حداً للغة الشعرية نجده يتيه في غياهب لغته الشعرية، علماً إن اللغة الشعرية – بحد ذاتها – تحتاج إلى توضيح شديد، لا أن يوضع تعريف لها يغرق معها في الشعرية، فعندما تستخرج مفردات هذا المقطع أو النص النقدي نجد “البناء الجليل، جمر الروح، أحجار الدلالة الساطعة، خضرة فردية، خشب اللغة، أشجار معمرة، الورق، الضوء، الجنون”، ففي هذه اللغة وبسبب معجمها النقدي “يكاد النقد يتماهى مع الإبداع لا من حيث هو وضع وابتكار، بل من حيث هو صياغة فنية”([16])، إذ أن صياغة جمل العلاق النقدية هي صياغات شعرية من حيث ارتكازها على المجاز أو اعتمادها على الانزياح بشكل عام، وهنا بدلاً من أن يفتح العلاق أسرار “اللغة الشعرية” فإنه يضعنا أمام متاهات ومغاليق تتلوها متاهات ومغاليق آخر، ذلك بسبب اللغة الشعرية التي غطّت جسد النقد وذوّبت ملامحه الجادّة والمنطقية إلى ملامح لا يمكن تأشيرها وتحديدها، وهنا تتحول اللغة الشعرية في المنطق النقدي إلى “غاية في ذاتها وليست وسيلة لغايات أخر فهي ليست أداة ولا وعاء ولها شروطها الخاصة ومواصفاتها ويمكن القول إنها نوع داخل اللغة، بقدر تميّز هذا النوع ووضوحه يتميز الشعر من سواه”([17])، لقد بقيت لغة العلاق النقدية تغوص في شعريتها سواء في التنظير للمناهج النقدية أو في الإجراء النقدي([18])، ولا تختلف لغة العلاق في نقد السرد عن لغته في نقد الشعر، إذ ما زال معجمه، “غامض، غائم، تمرد، كلي، سحر، وهج، دهشة” مهيمناً على خطابه النقدي، فمثلاً نجد العلاق يتحدث عن شعرية رواية مؤنس الرزاز “متاهة الأعراب في ناطحات السحاب” بقوله: “الشعرية التي يحاول هذا البحث تفحصها هي ذلك الجرح الذي يخرج بالنثر من عادته الموروثة، وشحنه بما ليس متوقعاً منه، حيث تصبح لغة النص هائجة، مفاجئة، مراوغة، تعج بشهوة الجسد، وماء الحلم، وفوضى الحواس”([19])، يحاول العلاق في هذا النص النقدي أن يؤشر ملامح الشعرية في الرواية فيورد مجموعة من المحددات التي تدل على شعرية الرواية، ولكن هذه المحددات هي في الأصل غير محددة، فهي غائمة وغامضة ولا يمكن الإمساك بها أو تحديد معالمها ذلك بسبب شعرية اللغة النقدية، إذ إن الشعرية في الرواية التي يعاينها تعني الجموح، وبسبب هذا الجموح تصبح لغة النص هائجة، مفاجئة، مراوغة، إن هذه المفردات بشحناتها الانزياحية الشعرية لم تسعف النص النقدي في الإمساك بالدلالة التي يبحث عنها الناقد ويريد إيصالها إلى المتلقي، فالمحددات التي اقترحها النص وقارب بها شعرية الرواية لم تكن واضحة بعد، فما زال ضباب الشعر يخيم على أجوائها، ويزيد الضباب الشعري أكثر فأكثر في ختام النص عندما يضع الناقد توصيفاً للغة النص الهائج حيث “تعج بشهوة الجسد، وماء الحلم، وفوضى الحواس” وهنا يختم العلاق نصه النقدي بتراكيب شعرية تبتعد عن منطق النقد وتتشح بإزار الشعر، وحين تفحص هذه التوصيفات نقدياً فإننا نجد توصيفات غير محددة وتحتاج إلى فك شفراتها، فما دلالة ماء الحلم أو فوضى الحواس، إن مثل هذا البناء والتركيب يخدم القصيدة حيث تنتعش مثل هذه التركيبات في جسد القصيدة ولا تنتعش كثيراً في الجسد النقدي لأنها تفضي إلى ضباب الشاشة النقدية.
بقي معجم العلاق النقدي المتمثل في “لغته المقالية” الشعرية ثابتاً ودالاً عليه في كتبه النقدية كلها، وربما كان إصرار العلاق على هذه اللغة نابعاً من إيمانه “بأن العملية النقدية لا تفصح عن ذاتها إلا من خلال اللغة وفي اللغة أيضاً وبدون لغة جذابة وثاقبة لا يستطيع الناقد مهما كان وعيه النقدي عالياً، أن يجسد موقفه من النص وانفعاله به تجسيداً بارعاً ومؤثراً”([20])، وعلى الرغم من هذه الدعوات لتبني اللغة الجذابة لكن العلاق يحذّر من أدبية النقد خشية وقوعه في الإنشائية وخشية غرق اللغة النقدية في الانطباع أو الخاطرة أو الرأي المنفعل([21])، وعلى الرغم من رأي العلاق الحذر إلا أن لغته النقدية تقع – غالباً – فريسة اللغة الشعرية وتهويماتها، رغم رشاقتها وجمالها الشعريين.
_______________________
([1])يُنظر: بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ترجمة: محمد الولي، محمد العمري، 9.
([2])بنية اللغة الشعرية، 25.
([3])يُنظر: نفسه، 26.
([4])الحبكة المنغمة، عبد الجبار عباس، 35.
([5])التحديق في الشرر، د. علي جعفر العلاق، 115.
([6])شعرية الذكرى، مصطفى الكيلاني، 102.
([7])يُنظر: نفسه، 103.
([8])ها هي الغابة فأين الأشجار، د. علي جعفر العلاق، 37.
([9]) في حداثة النص الشعري، علي جعفر العلاق، 14.
([10])المفكرة النقدية، د. بشرى موسى، 112.
([11])اللغة وعلائقيتها، د. علي ناصر كنانة، 23.
([12])في حداثة النص الشعري، 15، 16.
([13])نظرية النص، 299.
([14])في حداثة النص الشعري، 23.
([15])يُنظر: نظرية النص، 284.
([16])الأدب وخطاب النقد، 299.
([17])اللغة الشعرية في الخطاب النقدي العربي، 277.
([18])يراجع تعليقه على قصيدة السياب “بويب” في حداثة النص الشعري، 55، ويُنظر: 54، 58، 59، 60، 61، 65، 92، 127.
([19])الشعر والتلقي، د. علي جعفر العلاق، 173.
([20])ها هي الغابة فأين الأشجار، 38.
([21])يُنظر: نفسه، 40.