سطوة التشرد والقلق
بقلم: إسحاق الخنجري
قراءة في مقطع من قصيدة ( نعش الخطوة الأولى) من مجموعة معبر الدمع
للشاعر العماني عبدالله البلوشي
” لن أستفيق من عزلة الذاكرة
هكذا حدثتني مساءات الشتات
ولأنني أسكن غواية الصمت
فلن أمنح الاغتراب غفرانا
وفي زوايا الطين تتمدد الصور
وتكبر بحجم النار
كانت تدثرني الصحراء
هكذا كنت أنا
كغصن يمتد من شجرة موبوءة
وحيدا يتدلى في سديم الأرض “
تظل الروح محاصرة بالتشرد والقلق وانقطاع الرباط بين الشاعر والحضور، نتيجة اشتغال الذاكرة بالخطى الراحلة – أثر الكائنات المفقودة – ؛ حيث هناك سلسلة مضنية من النواح والعصف التي تسفر عن وجود كائن حاضر جسديا وغائب روحيا ،بوصفه متلبسا بالغربة المجردة من الواقع و المتخيل الموجود في الرؤى والغائب في الحقيقة .
ذلك التيه المفتوح المكتظ بالألم ، يضع الشاعر أمام خيارين : إما الاستسلام والرضوخ للعدم ، نظرا لكونه فارغا من واقع المكان والزمان ، أو تعويض الراحل بالمحسوس من أجل التعايش والبقاء . والشاعر على ما يبدو بقى معذبا في الخيار الثاني يتلو عذاباته . وحين نقرأ الدلالات سيميائيا ، يتضح المعنى المقصود . البداية تجلت في مؤشر قاس جدا , مؤشر مغلق ، لا يفتح إلا نافذة واحدة هي الاغتراب في المجهول ، ف “لن” علامة لغوية تعني المطلق القادم ، و” أستفيق ” علامة عرفية ترمز للتحرر ، ولكن اتحادهما معا يشكل انعطافا سلبيا يمكن تسميته بالهلاك البطيء ” الذي يشكل في سياق النص عمق الدلالة المركزية وبالتالي تنطوي جميع الأيقونات على المفهوم ذاته .
1- أيقونة الراحلة البعيدة
2- أيقونة الشريد المهزوم
3- أيقونة مفعول العصف
الأولى / سبب المشكلة وفاعلة الأثر ، بها يصبح الكائن مقيدا حبيسا في الوهم ، لا يرى سوى قلقه وحتفه ، ذلك لأن الهيام طاقة الخلق وصيروة التزامن ، فوجوده يمنح الأشياء متعة الحضور ، وفقدانه يعني العجز والخراب .
الثانية / الشاعر متشرد جدا ، غير قادر أن يقيم علاقة مع الموجودات ، منكفىء في عزلته ، خارج نطاق الحركة ، لا يملك شيئا ، يواجه به انهياره ، لذا ظل متآلفا مع منفاه .
الثالثة / أشكال صراع الذات مع صور الذاكرة وأبعاد العلاقة بين المرئي والمحو, والآتي والراحل ، وما هو داخل الكيان النفسي وما هو معزول عن حدوث المعنى . إنها حالات الفجيعة التي تلبسها الشاعر طيلة اغترابه .
ودهشة الدلالة كامنة في مقطع ( كانت تدثرني الصحراء) الذي يشير إلى اختفاء الكائن المرادف للروح وظهور ما ينتج عنه من ويلات قاصمة هشمت وجود الشاعر .حيث ظل وحيدا، يتدلى كغصن منعزل خارج عن الأغصان الأخرى، الأمر الذي يشير إلى وجود حالة من الغربة الهالكة، ذلك التشرد الضارم الذي يقوده إلى الصحراء وحيدا و تائها في سديم الأرض , السديم الذي يحيل إلى صفة الهجر الأبدية ، إذ الشاعر مسكون بالقلق من جهة و مصاب بالفقد من جهة أخرى ، فهو غير قادر على تأثيث حاضره و التصالح مع زوايا الطين الذي يمثل علامة الكائن البشري العنيف الهادر بالقسوة و الصلابة في ضوء دائرة الاغتراب التي يعيشها الشاعر وعدم قدرته على التوافق مع الآخر .
والسؤال الملح هنا ، لماذا اختار الشاعر الصحراء كي تدثره من ضياعه؟، وهو يدري أن الصحراء – عادة في إطار النظر الواقعي – صورة التلاشي الحثيث و الصمت المكثف , المكان الأشد غيابا و فقدا ، أم أنها إشارة للأنثى الملهمة البعيدة الفريدة التي تدثره وتدرك جراحه ، لكنها غائبة ، غائرة في البعد ، وبهذا المعنى تغدو المرأة علامة الجفاف المطلق بسبب غيابها ، وتركها الشاعر تائها ، منعزلا في الأقاصي وكان بمقدورها أن تكشف غمته وتشكله من جديد . .
وهنا تأتي علامة الصحراء المعادل الطردي للأنثى الراحلة ، وصورة التشظي الأخرى في ضوء معادلة الحضور والغياب، حيث تكون النتيجة تغريب الأنا وانشطار الروح ، فإذا كانت المرأة علامة متعة الامتلاك ، فإن الصحراء علامة الهيام والعري ، وإذا كانت رمزا للرحيل وانهزام الجسد ، فالصحراء رمز لفقدان الأشياء وواقع اللأنظمة . وحين نتأمل تركيب ” كانت تدثرني الصحراء ” مرة أخرى ، نرصد غربتين : غربة الروح وغربة المكان معا على اعتبار الجمود واستمرارية التيه والقلق و تتنوع مؤثرات الصراع بين الكائن والمكان ، الكائن بوصفه القوة الخالقة للفعل ، والمكان باعتباره مفتاح الخطاب والاتصال بين الكائنات ..