(الحيادية في نقد التراث العربي بين النظرية والتطبيق)
نقد التراث العربي بين العلمية والانحياز الأيدلوجي “نموذجا”
عبدالله البلال – سلطنة عُمان
إن توجه الاقلام الفكرية نحو حل إشكالات تتسرب في البحث النقدي لهو دليل على أن الأمة ليست راكدة فكريا، ولكن اذا كانت هذه الابحاث لا ُتصلح ذاتها فما هي الفائدة التي نجنيها من هذه الابحاث؟!.
في دراسة ” نقد التراث العربي بين العلمية والانحياز الأيدلوجي” ظهرت آفاق علمية جميلة فيه تدفع الباحث إلى شاطىء الانصاف والتحررية من الميولات الذاتية، ولكنها لم تكتمل بسبب بعض الاشياء التي قد تشكل على القارىء والتي أخذت تنحى بالبحث لطريق يغاير طريق البحث وهذا ما قد يجده القراء في أبحاث كثيرة، ففي بداية الدراسة جعل الاستاذ دراسات محمد عابد الجابري كنموذج لتوضيح فكرته، وهذا شيء لا يعاب بل هو أدعى لتوضيح الفكرة، ونجاحنا يكمن في نقدنا الذاتي، ولكن تسربت بعض الجمل التي ليس لها علاقة بصلب النقد، والتي قد توقع صاحب الدراسة في الاشكالية التي جاء ليعالجها.
بعد ذكر العناوين الفرعية التي ذكرها الجابري في كتابه كما هو موضح في البحث المذكور تعقب باحثه هذه العناوين وجعل يحمّل كلام الجابري مفهوماً مغايراً لمنطوقه، حيث قال بما خلاصته : ” أن هدف الجابري أن يصم الغير بالجهالة والسفه والجمود والتحجر” [1]، وهذا الكلام ليس له مبرر في البحث، لان معرفة قصد الآخر أمر لا يدركه الانسان بجوارحه، وقد يقول قائل : أنه ظهر من كلام الجابري ما يشير إلى ذلك، وهذا لا بد من توضيحه قبل التعقب أما الاكتفاء بهذه الاسباب فقد تدخل الباحث إلى طريق اعتراكي، وأستحضر في هذه النقطة كلاماً جميلاً لأحد الكتاب حيث يقول :
“إن الباحث وهو في رحلة الاعداد لبحثه -على ما ينفقه من وقت وجهد، ويأخذ نفسه به من حذر وحيطة- يتعرض لعوامل مختلفة قد تدخل على عمله تناقضا في الآراء، وخللا في التناسق والتسلسل وخطأ في استخدام المفردات والعبارات ، فإذا قدم بحثه فور الانتهاء منها ودون أن يكرر النظر فيها، ويستدرك ما عساه قد وقع فيه من هنات جاء عمله خاليا من الدقة والابداع، وربما فتح عليه بابا من النقد لا قبل له[2] .
نعم ، للباحث الحق في حرية النقد لكن هذه الحرية لها معالم وهي ليست مفتوحة على مصراعيها، فالنقد يكون موجها لذات الفكرة والكلام الذي نستطيع أن نصفه بالصحة والبطلان، ولكن نعت الشخص ووصف حاله الداخلي هذا لا يضفي شيئاً في البحوث العلمية ولا علاقة للباحث فيه، فالباحث يتوجه لذات المادة العلمية، ففي النقد لابد أن يبعد الناقد كاتب البحث من المسرح النقدي، ويعيش مع الدراسة وكأنها تكلمت عن نفسها لا أنها جماد كُتبت من قبل كاتب، وذلك لكي ينصب النقد في صلب المادة العلمية ويؤتي الثمرة المرتقبة من وراء النقد الهادف.
ولقد أكد في ذهني أن الدراسة المذكورة سابقاً قد انحرفت عن مسارها النقدي الحيادي في بعض حالاتها، هو تكرار النقد الشخصي، فبعد أسطر بسيطة من العبارات السابقة جاءت عبارات أخرى تشكك في عدم حيادية الجابري في هذه الابحاث، فقد قال الكاتب : “إن ما كتبه الجابري في مدخل كتاب “تهاهفت التهافت ” جاء مشحوناً بالحقد الايدلوجي على أبي حامد الغزالي، متجاهلاً في الوقت نفسه حقوق الموضوعية العلمية التي تفرضها أخلاقيات البحث العلمي الرصين”[3]
وإن كان الجابري مشحوناً على أبي حامد فكان من المفترض على الباحث أن يبين خطأ الفكرة والوصف الخاطىء الذي وصفه الجابري، لا أن يصف الباحث بمثل هذه العبارات.
وأنا لا أدافع عن الجابري وما جئت من أجل تبرير كلام الجابري، بل قد أكون من أشد المعارضين للفكر والمسلك الذي يتباه الاستاذ الجابري، ولكن لابد أن تحملنا أخلاق البحث العلمي بعيدا عن شخصنة المواضيع ، حتى وإن كان يرى بعض الباحثين من أن بعض الكُتّاب هم معاول هدم للثقافة العربية من وجهة نظرهم، ولكن هذه النظرة محكومة من منطلقات الشخص الذي يخالف هذه الفكرة، فقد يكون الطرف الأخر له منطلقات فكرية مغايرة وإن كانت مجانبة للصواب فهي في النهاية نتيجة جهد وصل إليها ذلك الباحث ولها الحق أن تعرض في الميزان النقدي، ويُميز صحيحها من سقيمها.
إن دراسة “نقد التراث العربي بين العلمية والانحياز الايدلوجي” جاءت لتجد حلولا لاشكالية التحيز الايدلوجي في النقد العربي، ولقد أكد باحثها بالنماذج المطروحة عن نوعية التحيز، الذي من شأنه أن يجعل صاحب الكتابة النقدية يتحيز إلى شخص ما ، بسبب توافقه في الفكر مما قد تجعله يسفه الآراء المغايرة لذلك الشخص الذي ينتمي إليه ، وهذه إشكالية حاضرة بقوة في عالمنا العربي، وهي من القضايا المهمة التي لابد أن تلفت نظر الكاتب والناقد العربي ، ولقد شعرت بالسعادة عندما قرأت هذه الدراسة المتمثلة في أوراق بسيطة ولكنها تحمل في طياتها معالم جليلة من شأنها أن تنهض بالبحث النقدي، وتدفع عنه ما دخل فيه مما قد يؤثر على حقيقة النتائج، ولكن يبدوا أن الكاتب والناقد العربي مازال يطفو على ضفاف التحيزات وهو لا يدري بذلك، فهو أشبه بحالة لا شعورية تأخذ بالباحثين إلى نفس الاشكاليات التي يحذروا منها.
وعودة على النموذج الذي أخذناه في هذه الدراسة فقد كان باحثها يحاول الذب عن أبي حامد، وهذا شيء جميل بأن يستشعر إنسان بعدم إنصاف لشخص لا يستطيع أن يذب عن نفسه لانقطاعه عن عالم التواصل، وهذه أخلاقيات رفيعة تدفع الباحث شرط أن لا يكون ذلك أيضا تحيزا للشخص ولكن بقصد إنصاف ذلك العالم أو المفكر وإعطاءه مكانته وحقه الذي لابد أن يكون له، وكان ذب الباحث عن أبي حامد في المقالة التي يتداولها الكثير في وصفه “أن الغزالي ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع”، وقد ذكر الادلة على بطلان هذه المقولة التي أشيعت ضده، وليست دراستنا بصدد مناقشة صحة الادلة التي تنفي هذا الوصف عن أبي حامد أو اثبات ذلك الوصف، ولكن التركيز حول ما جاء بعد الادلة وهو ما قاله صاحب الدراسة : “بأن أول من أطلق هذه المقولة هو أبوبكر بن العربي المعروف بتشدده وانغلاقه ولا أدري كيف يصفه الجابري بكونه متكلما أشعري أندلسي”[4]
فقد نعت صاحب الدراسة ابن العربي بعدة نعوت وهو في معرض النقد التراثي العربي الذي جاء ليدفع عنه التحيز النقدي، ولكن سرعان ما تخالف التطبيق مع النظرية، فقد وصف ابن العربي بأنه متشدد ومنغلق،ولا أعرف ماذا يعني بالتشدد والانغلاق؟، ولكن كان لابد من تقديم أدلة تبين هذا الكلام لاسيما وأن ابن العربي من تلامذة أبي حامد الغزالي،وهو من المشهود لهم بالعلمية في التاريخ الاسلامي، وهذه الجزئية سأتركها لنظر الباحث عل أن يوضحها لنا في دراسات قادمة.
ولكننا سنقف على جزئيات متجلية، وهي قوله : “أنه لا يدري كيف يصفه الجابري-أي ابن العربي- بأنه متكلم أشعري”، فما أدري ماهي معايير المتكلم والاشعرية عند الباحث؟!
ففي كتاب العواصم من القواصم قال ابن العربي : “ولقد مشيت يوما بعسقلان، إلى المحرس باب غزة وقد كان القاضي حامد المعتزلي الحنفي ورد علينا بها، فاجتمع عليه الشيعة، والقدرية، وأهل السنة على طريقتهم، في قصد الواردين المتحلين بالعلم، والمنتسبين إليه، وكانت بيني وبينه معرفة في المسجد الاقصى.
فقال له أصحابه : هل يُحكم بكفر الأشعرية، في قولهم : إن الباري يُرى؟
فقال له القاضي حامد : لا يحكم بكفرهم، لأنهم يقولون : إنه يرى في غير جهة، فيذكروك ما لا يعقل، ومن قال ما لا يعقل لا يكفر.
قال ابن العربي معقبا على الكلام بعدما ذكره : “وفي هذا الكلام نظر يأتي بيانه ،إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرته لكم لتعلموا قدرنا عندهم،ولولا أنكم لم تتمرنوا بالهندسة،لأريتكم من خطئهم في المرآة ما لا يخفى على من تعلق بشيء من الطريقة”[5].
ولم آت بكلام من التراجم التي قد يظن أنها تصنف الشخص إلى غير فكره لدواع مذهبية، ولكن أخذناها من كتابه وكلامه مباشرة لكي تتجلى لنا الصورة الصحيحة.
ثم نأتي على الكلام الذي جاء بعده في “دراسة نقد التراث العربي بين العلمية والانحياز الايدلوجي”، فقد ذكر صاحب الدراسة “أن ابن العربي ليس بشيء في علم الكلام ولا يعد في أي طبقه من المتكلمين،واذا كان ابن تيمية قد ردد هذه المقولة فلأن له نفس منطلقات ابن العربي، كما هو معروف، فكلا الرجلين ذو ثقافة سلفية تستنكر الفلسفة وعلم الكلام معا”[6]
فقد ذكر أن ابن العربي ليس من المتكلمين ولا يعد في أي طبقة منهم، نريد أن نستوضح هذا الكلام فهل هو منبثق عن دراسة دقيقة للكاتب أم أنها كلمات خارجة عن نطاق البحث الحقيقي، ليس القصد من هذه الدراسة معرفة إذا ما كان الباحث على صواب أم على خطأ فيما قاله ولا أظن حتى أن الباحث جاء ليناقش هذه القضايا ولكن الكلام جاء في معرض النقد على النقد، وسوف نتعرض أيضا للكلام من باب النقد على تطبيق النظرية النقدية التي جاء بها الباحث نفسه، ولتوضيح مدى تباين المنهج التطبيقي عن المنهج النظري في هذه الجزئية من البحث.
قد تُعبّر وجهة نظر الباحث في أن ابن العربي ليس متكلما عن رأي الباحث شخصيا ، علما أن ابن العربي تتطرق لجوانب علم الكلام ولكنه لم يوليه كل اهتمامه لدرجة تصنيفه بجانب أبي حامد الغزالي وزمرته، ولكن ما جاء بعد ذلك من كلام الباحث حيث أن ابن العربي من المدرسة السلفية وتعرضه لابن تيمية ووصفه بذلك وأن كلا الرجلين له نفس المنطلق فهذا كلام ليس بمعروف كما يقول الباحث، والاشكالية تقع في توضيح المنطلقات التي يتحدث عنها الباحث، ولا أدري إن كانت المنطلقات هي الهجومية من كلا الطرفين على الفلسفة والكلام أم ماذا؟
ولكن ما أردت إيضاحه هو الانتماء المدرسي للرجلين، فقد ذكر الباحث أنهما من المدرسة السلفية، وما أدري ماذا يعني بالمدرسة السلفية؟ فهناك ثمة مصطلحات يطرحها بعض الباحثين تشكل على الآخرين في فهم الكلام، ولكن ما لابد من توضيحه في النقاط السابقة أن منهج ابن تيمية يختلف عن ابن العربي، فإذا كان يقصد بالمدرسة السلفية بالمصطلح القديم فهذا يشمل أغلب إذا ما قلنا جميع علماء الاسلام، ولكن اذا كان يقصد المدرسة السلفية كإعتقاد كما هو معلوم في واقعنا المعاصر، فإن هذا الاستنتاج غير صحيح لان ابن تيمية عرف بعقيدته الحنبلية كما يسميها البعض وقد وقف في وجه الاشاعرة الذين ينتمي إليهم ابن العربي الاندلسي، وكما أن الاستاذ جعل ابن تيمية في مكانه مقاربة لابن العربي وأن الاثنين بنفس الثقافة بحجة محاربتهم للفلسفة والكلام، وهذا الكلام فيه نوع من عدم الانصاف والحيادية التامة التي تقتضيها منطلقات البحث نفسه، فإن كان الكلام علميا من قبل الباحث فكان لابد عليه أن لا يسقط الكلام جزافا، بل لابد من البرهنة والتدليل لهذا الكلام، أما اذا كانت الاستنتاجات من رأي الباحث وبدون مبررات علمية حقيقية فقد يصدق عليها قول الباحث نفسه في دراسته ونظريته حيث قال : ” وحينما نصم رأيا أو منهجا بالعلمية أو اللاعلمية، فإن معيار العلم نفسه لابد أن يكون معرّفا وإلا فإن المسألة تصبح مسألة ذوق شخصي”[7]
كلام في غاية الدقة والرصانة ولكن سرعان ما تنتقض مثل هذه القوانين العلمية الرائعة بالتطبيق العملي، وهذا ما نعانيه حقا فيما نعنيه بالتطبيق المخالف للتنظير.
فلم يوضح لنا الباحث المعايير التي بنى عليها نقد ابن العربي وابن تيمية على الكلمات التي ردداها في شأن أبي حامد ، وهذا مما قد يجعل الباحث في موقف يعرضه للنقد الشديد، لاسيما وأنه جاء ليدفع الانحياز الايدلوجي من نقد التراث العربي، فمن خلال قراءتي السابقة علمت أن ابن تيمية كان من أعلام المنطق برغم انتقاده لبعض قواعد المنطق ولكنه كان ممن له اطلاع واسع في المنطق، بل يعده بعض الكتاب أنه يلي الغزالي في الثورة المنطقية الاسلامية، وأنه أضفى للمنطق علما وافرا يجعله يتماشى مع روح الشريعة الاسلامية وأصولها .
فقد قال العقاد في كتابه ” التفكير فريضة إسلامية” تحت مبحث المنطق : “وإذا أحيل البحث إلى الإمامين الغزالي، وابن تيمية، فنحن بين حجتين من حجج المنطق لا يسبقهما فيه سابق من المتقدمين أو المتأخرين، ومناقشتهما للمنطق مناقشة تصحيح وتنقيح وليست مناقشة هدم للأسس التي يقوم عليها أو تفنيد للأصول التي يرجع إليها”[8].
وفي نفس الكتاب أيضا قال : “وما كان ابن تيمية بالذي يظن به أنه يعادي المنطق لأنه يجهله ويستخف به مداراة لعجزه عنه، فإن معرفته به ظاهرة في معارض قوله كأنه من زمرة المتخصصين له والمتفرغين لدراسته وحذق أساليبه، ومثل هذا لا يتصدى للمنطق إلا أن يكون فيه ما يخشى ضرره على الناس، ولا سيما المشتغلين به من غير أهله”[9].
كما ذكره صاحب كتاب منطق ابن خلدون حيث قال : “ابن تيمية من الشخصيات الفلسفية الكبرى في الاسلام، وهو يلي الغزالي من حيث قوة الابداع، لاسيما فيما يتصل بالناحية المنطقية”[10]
بل أن نقاد المنطق في أوروبا استفادوا من ابن تيمية في هذا المجال، ففي كتاب دراسات في الفلسفة الاسلامية جاء : “ويكفي دلالة على أن رفض المسلمين لمنطق أرسطو، ونقدهم له هو الذي نبه علماء أوروبا الى عيوب هذا المنطق، وخروجهم عليه، بل إنهم ساروا على نفس الدرب الذي سار عليه علماء المسلمين في هذا النقد، “فديكارت” مثلا في حملته على منطق أرسطو لم يزد شيئا على ما قاله “ابن تيمية” في هذا الموضوع [11]
حاولت الدراسة توضيح إشكالية التطبيقات الخاطئة لنظرية الحيادية التي تعقب الكلام النظري دائما في كتب نقد التراث العربي، ولعل النماذج التي تم عرضها في هذه الدراسة استطاعت من إيصال حقيقة هذه الاشكالية.
________________________________
[1] الطائي : محمد باسل،نقد التراث العربي بيت العلمية والانحياز الايدلوجي،مجلة جرش الثقافية،الاردن،العدد الرابع، 2006م،ص82.
[2] الدسوقي: محمود،منهج البحث في العلوم الاسلامية،دار الاوزاعي،ط1، 1404هـ،1984م،ص141.
[3] انظر: الطائي ، محمد باسل،نقد التراث العربي بيت العلمية والانحياز الايدلوجي،ص82.
[4] المرجع السابق،ص86.
[5] ابن العربي : أبوبكر،العواصم من القواصم،القاهرة،مصر،مكتبة الصفا،ط1، 1428هـ،2007م،ص45.
[6] الطائي : محمد باسل، نقد التراث العربي بيت العلمية والانحياز الايدلوجي،ص86.
[7] المرجع السابق،ص83.
[8] العقاد: عباس محمود،التفكير فريضة إسلامية،مصر،نهضة مصر للطباعة والنشر، ط9، 2008م،ص29.
[9] المرجع السابق،ص37.
[10] الوردي : علي، منطق ابن خلدون، بيروت ، لبنان، دار كوفان ،ط2، 1994م،ص57.
[11] الدسوقي: محمود، منهج البحث في العلوم الاسلامية،ص31.