رصد المنجز الشعري النسوي في المشهد الثقافي العماني . 1/1
د. سعيدة خاطر الفارسية
ارتبطتْ الكتابات الشعرية النسوية في الوطن العربي بشكل عام ببدء تعليم الفتيات ، وقبلها كان الشعر يتردد على ألسنة المرأة باللهجة المحكية الشعبية ، إذا استثنينا شاعرات العصور الأدبية المزدهرة كالخنساء ، وليلى الأخيلية ، وعليه بنت المهدي ، وولادة بنت المستكفي ، ففي عصور انحسار الحضارة العربية ، يكاد المشهد النسوي يخلو من شاعرات الفصيح إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات العشرين ، حيث بدأ الصوت الشعري النسوي يعود على أيدي المستنيرين من الآباء ، أو الأسر ذات الصبغة الثقافية الأدبية ، ومن ثم ظهرت وردة اليازجي ، وردة الترك ، عائشة التيمورية ، ماري عجمي ، أم نزار ( أم الشاعرة نازك الملائكة ) ، ملك حفني ناصف الملقبة بباحثة البادية ، فاطمة سليمان الأحمد ، الملقبة بفتاة غسان ، وفدوى طوقان ، ونازك الملائكة وغيرهن ، ومن الملاحظ أن كل هؤلاء ولدن في أسر مهتمة بالأدب والشعر ، ودرست أغلبهن على أيدي آبائهن وأخوتهن من الرجال ، ومن ثم ولد الشعر النسوي بلغة ذكورية محضة ، فالأغراض هي ذات الأغراض التي تداولها الرجل ، إذ كتبتْ المرأة في الوطنيات والقوميات وأجادت في الرثاء كما ورثتْ ذلك من إرثها النسوي العربي ، وكتبت الغزل على استحياء وفق ما تعلمته من الرجل أستاذها بثقافته التراكمية عبر العصور الأدبية المختلفة ، فإذا أخذنا نموذجا عشوائيا من غزل عائشة التيمورية مثلاستتضح لنا تلك الملامح ، تقول عائشة :
روحي بِقُربِكَ قَد نالَت مِنَ الاِربِ
ما تَرضيهِ فَمرها في الهَوى تجبِ
فَضَع يَمينُكَ فَضلا فَوقَ مهجَتِها
تكفُّ بِالكَف ما عانَتهُ مِن وَصبِ
لا تُنكِرَن مَزايا الحُب اِن لَهُ
في الراحَتَينِ لَراحاتٍ من التَعَبِ
وَاِنظُر تَرى الصَب مَلقى لا حِراك بِهِ
باكٍ تَردد بَين الماءِ وَاللَهبِ
من روح رَبِّكَ روحٌ قَد خَصَّصَت بِها
فَاِمنَح بِها مُهجَة ًاِن تَلتَفِت تجبِ
وَقُل لإنسانِكَ الجاني عَلى تَلَفي
بِأَي ذَنبٍ لِقَتلي زدتَ في الطَلبِ
إن هذا الشعر لو اخفيت اسم كاتبته لاعتقدتَ أن الكاتب رجل فالمفردة والأسلوب والتراكيب والصور كلها ذكورية تامة ، وهذا ما قالته الرائدة الأديبة مي زيادة ( الرجال أساتذتنا وآباؤنا ومعلمونا ) وقد احتفتْ المرأة الكاتبة بزميلتها احتفاء أدبيا كبيرا وشددنَ من عزم بعضهن البعض، فبعثت وردة اليازجي إلى معاصرتها الأديبة وردة الترك المتوفية سنة (1873) م
أبياتاً تمدحها فيها ، وتقول :
يا وردة التركِ إني وردةُ العَرَبِ فبيننا قد وجدنا أَقرَبَ النَّسَبِ
أعطاكِ والدكِ الفنِّ الذي اشتهرتألطافهُ بين أهل العلم والأَدَبِ
فكنتِ بين نساءِ العصر راقيةً أعلى المنازل بالأقدار والرُّتَبِ.
وعندما بدأت الطفرة النفطية في الخليج وبدأ تعليم الإناث ظهرت رائدات الشعر النسوي في الخليج مثل ثريا قابل في السعودية ، سعاد الصباح وخزنه بورسلي في الكويت ، منيرة فارس وحمدة خميس في البحرين ، عزاء المغيرية ، وعائشة الحارثي في عُمان ، ثم توالت الأسماء وكل هؤلاء يجمعهن جامع واحد هو أنهن شاعرات نشأن في بيت ثقافي مهتم بالأدب والعلم ، ومعظمهن فتيات لآباء شعراء .
ولا يختلف المشهد الشعرى النسوي في عُمان عن باقي دول الخليج العربي ، حيث كان المشهد الشعري في السبعينيات من القرن العشرين ، يبدو للرائي شبه خاوٍ – ونحن نتكلم هنا عن المنجز النصي الفصيح – فالشعر النسائي العامي بمختلف تنويعاته كان موجودا منتشرا عبر التناقل الشفاهي ، ولم يهتم بالكتابة لتؤسس لاستمرارية تواجده , لكنه كان مشهدا غنيا ومشاركا مع الرجل بفاعلية ، خاصة ذلك الشعر المرتبط بالغناء والرقص الفلكلوري ، وكان ذلك على النقيض من المنجز الشعري النسوي الفصيح الذي لم يحظ قبل السبعينيات إلا بالندرة النادرة من الأسماء الالأالسماء النسائية وذلك لتقلص التعليم والكتابة ، وإن كانت قد وردتنا شفاهيا عدة أسماء ، كالشاعرة عزاء بنت حماد بن مسعود المغيرية المتوفية في بدايات القرن العشرين كما أفاد الأستاذ أحمد الفلاحي ، وبهذا تكون (عزاء المغيرية ) من مواليد القرن التاسع عشر ، وبذلك تكون من جيل الرائدات في الوطن العربي وتعتبر الرائدة الأولى للخليج العربي ، فقد تزامنت في الظهور مع فترة الرائدات العربيات الأول ، ومما وصلنا من أشعارها هذه المقطوعات القصيرة (1) قولها:
إلهي لقد أكرمتني ووهبتني
عطاء جزيلا فوق ما استحقه
فيا رب وفقني لشكر ٍ وقوني لذكر ٍ
وذلل لي طريقا أشقه
ونلاحظ التوازن في بناء العبارة ، وحسن التقسيم البلاغي الذي يثري بدوره الموسيقى في ( وفقني لشكرٍ ، وقوني لذكرٍ )
(2) قولها :
إلهي نسألك العافية ومن
فيض رحمتك الحانية ْ
وعفوا يقينا العذاب الشديد
ويمنحنا الجنة العالية ْ
ويسر شفاعة طه لنا
بيوم المحاسبة الوافية
(3) قولها :
أمَتـُكَ الذليلة ُ الفقيرة ْ
تعاظمتْ ذنوبُها كثيرةْ
فاغفر إلهي الزلةَ الصغيرة
وأعفُّ عن الخطيئةِ الكبيرة
وقبرها يا سيدي تُنيره
لكي يكون روضةً نظيرة
ومن الواضح الثقافة الدينية التي تمتاح منها الشاعرة مضامينها الدلالية ، وقصور شعرها على الغرض الديني ، كما يتضح ميلها للثراء النغمي ومقدرتها على انتقاء القوافي ولزوم ما لا يلزم إظهارا للبراعة حسبما تقتضي البلاغة العربية القديمة . ولاشك أن شاعرة بهذه المقدرة والبراعة اللغوية والعروضية لها شعر كثير لم يحفظ ، أو لم يسمح له أن يدون ويحفظ وفق عادات وأعراف كانت تحاكم الرجل في موروثه الغزلي ، فما بالك بالمرأة ، وأجزم بأن المجتمعات الخليجية وجد بها من تعلم في الكتاتيب من النساء وكتبن شعرا بالفصيح لكن انغلاق المجتمعات وسطوة العادات والتقاليد آنذاك ، حرمتنا من هذه الكتابات المحكوم عليها سلفا بالإبادة .
وإذا تتبعنا المشهد الشعري ابتداء من أول السبعينيات في عمان
( 1970 م : 20013 م ) وهي الفترة التي نرصدها ، والمتعارف على تسميتها بعصر النهضة العمانية ،أي الفترة التي لا يزال يحكمها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ، وجدنا الساحة خالية تماما من أي منجز نسوي مدون ، وسمعنا عن بعض الشاعرات اللآتي لم يكتبن نتاجهن تماسا مع العادات والأعراف الاجتماعية , والحقيقة أنه لم يصلنا أي اسم من تلك الفترة سوى الشاعرة عائشة بنت عيسى بن صالح الحارثي , حيث ورد ذكر بعض قصائدها في كتاب ( شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان ) للشيخ محمد بن راشد الخصيبي ، الجزء الثاني . الذي قال عنها :
( ولا يخفى أنها من بيت علم ورئاسة ، فيحق أن يقال لها الشاعرة الوحيدة في عصرنا )
لقد ورثتْ عائشة بذور الشعر من جهتين فهي أختالشاعر محمد بن عيسى الحارثي ، وخالها أمير الشعر العماني الشيخ عبدالله بن على الخليلي ، وكتبتْ قصائدها في الستينيات وبداية السبعينيات ، وهي قصائد كلاسيكية تشبه نوعا ما شعر عزاء المغيرية ، وأقرب إلى شعر الرائدات في الوطن العربي كشعر ( عائشة التيمورية ، وأم نزار ) أي أن شعرها مؤسس على لغة ذكورية متوارثة عبر القرون ، ولا يجسد الذات الأنثوية وخصوصيتها ومن ثم جاء شعر عائشة دينيا ، تعليميا , يحمل الكثير من النبرة الوعظية , أو الوصفية كقصيدتها في وصف رحلة الحج وأداء المناسك التي قالت فيها :
دعاني لحجِ البيتِ من بعد سبعة
وعشرين عاما قد مضتْ من حياتيا
فجزنا طريقَ الجو نخترقُ الفضا
وفي البرِّ أحيانا نؤمُ المعاليا
وصلنا ضحىً أم القرى منبع الهدى
فقرتْ بها عيني وسُرَّ فواديا
ولم تنشر عائشة الحارثية قصائدها في الجرائد , كما لم تدونها في كتاب خاص بها .
في ظل ذلك الصمت الأنثوي المطبق في تلك الفترة من تاريخ عمان , أنطلق صوت نسائي مختلف ، هو صوت الشاعرة سعيدة بنت خاطر الفارسي ، مسجلا حضوره القوي في منتصف الثمانينيات ، وكانت الشاعرة متسلحة بعدة عناصر تؤسس لانطلاقتها فهي خريجة جامعية ، تشربتْ من انفتاح الأفق الثقافي في الكويت التي تلقت مراحل تعليمها فيها ، ووريثة أسرة ينتمي العديد من أفرادها إلى دوحة الشعر ، جاءت الشاعرة لتسدَّ فجوة كبيرة في المشهد النسوي العماني الثقافي بمشاركاتها الكثيفة ، مخترقة المشهد الذكوري التام ، وكاسرة تفرد الصوت الواحد ، فكانت بذلك أول امرأة تشارك في إدارة مجلس النادي الثقافي ، وأول امرأة يصل نتاجها للنشر عبر الجرائد والمجلات ، وأول امرأة عمانية تشارك في المهرجانات الشعرية والثقافية المحلية والخارجية ، وصاحبة أول إصدار شعري نسائي سنة 1986 م بعنوان ( مدٌّ في بحر الأعماق ) ، كما كانت أول امرأة عمانية تحصل على تكريم إبداعي رسمي فقد منحتْ وسام الأدب من ملوك وقادة دول مجلس التعاون ، و حصلت على العديد من التكريم الأدبي داخل وخارج السلطنة ، وقد أسستْ سنة 1996 م أسرة الكاتبات العمانيات وترأستها .
من نماذج شعرها المبكر قصيدة أُمومة :
إذا ما تكوَّرتَ في داخلي … وأثقلتَ جسماً خفيفاً خلي
وصرتَ تلملمُ روحَ الحياةِ … فلم يبقَ شيءٌ سوى الآهِ لي
وأسدلَ ليلٌ ستائرَ وهم ٍ … وحارتْ ظنونٌ أبتْ تنجلي
ولما توالتْ شهوري الطوالُ … وقاربتُ هولا ً به مأ ملي
ذبلتُ ذبولَ غصون ِ الخريفِ… ومن تكُ مثلي ولم تذبل ِ !!
ولعل الريادة الحقيقة لشعر نسائي حديث يتسم بخصائص النسوية ، وتتناول ذات الأنثى وبوحها بدأت مع سعيدة خاطر ، تلك التجربة التي مهدتْ الدرب لمشاركات نسائية كثيفة ومتميزة فيما بعد.
في أواخر الثمانينيات ظهرتْ مجموعة من الفتيات ،ودخلت أسماء كثيرة سرعان ما اختفتْ لضعف الموهبة ، أو بالأصح لعدم وجودها أصلا ، واستمرت منهن الشاعرة تركية بنت سيف البوسعيدي التي أصرتْ على التواجد ، وظلَّ نتاج تركية متذبذبا إلى أن استقرتْ على قصيدة النثر تخلصا من العروض ، وكان أول دواوينها هو ( أنا امرأة استثنائية ) سنة 1995 م وفيه ينحاز منجزها الكتابي ،انحيازا تاما إلى النهج النزاري , فجاء ذلك على شكل تقليد صارخ في المفردة والأساليب مع خلخلة الوزن وارتباك اللغة , ثم نشرتْ ( جنائن الروح ) عام 2001 م وصدر ديوانها ( سوار الحب ) سنة 2006 م ، تزامنا مع كون مسقط عاصمة للثقافة العربية , ويشكل هذا الديوان إضافة في كتابات الشاعرة أتضح فيه تطور التجربة إلى حد ما , وبداية النضج , تقول في الإهداء : ( إلى ذلك الهارب / خلف السحاب / يقف لحظة صمت / عند صوت ربابتي ) .
بعد تركية بقليل ظهرت الشاعرة عائشة الفزاري وكتبت الشعر الشعبي والفصيح قليلا ثم اختفتْ ، وعادت مؤخرا متشجعة بالنشر الالكتروني ، في الفترة نفسها ظهرت نوره البادي ، وهي شاعرة جريئة تخوض غمار التجريب في أكثر من مجال ( كتابة الشعر ، التمثيل ، الإلقاء المسرحي ) وظلت تجربتها الشعرية تقليدية متعثرة إلى أن أصدرت ديوانها الأول ( للشاهين جناحٌ حرّ ) مسجلة حضورا واضحا ، دعمته فيما بعد بإصدار ( نصل الورق ) 2007 م ، وفيه تخطو التجربة الشعرية نحو النضج والتميز مع تلك اللغة المتوازنة في البساطة والتجويد الفني ، وما زالت نورة تخوض غمار التجريب والكشف , قابضة على التفعيلة الشعرية التي اعتمدتها نهجا شعريا لقصائدها ،تقول نوره من ديوانها نصل الورق :
( يجلدني .. / بياضُك المحلوج من .. / ندف الشتاء ……./ فينز ذاك الأحمر الممزوج نارا .. / يشعل الظل الرمادي ) ص65
في تلك الفترة مرتْ على المشهد الشعري النسوي كاتبة صغيرة تعجلتْ في تصدير ديوان شعر( بعنوان أحاسيس سرّ الحياة ) كان غلافه يحمل اسم 🙁 سمو السيدة نوال عبدالله آل سعيد )
لم تحدد الكاتبة هوية جنس الكتاب الأدبي على الغلاف ، لكنها جمعت في الكتاب خواطر من أحاسيسها , وقدم لهذا الكتاب الأستاذ : كفاح علي حسين , مدير تحرير جريدة الشبيبة آنذاك: في 2/2 / 1996م , تقول نوال من نص يحمل عنوان القيثارة الحزينة :
( إلى متى سيبقى الصمت يترجم أحزاني
وإلى متى ستبقى قيثارتي تنشد ألحاني
لتعلن عن معنى الصمت والسكون
في ألحان إيقاعاتها رجاء وأنين ) ص33
تم الاحتفاء بمنجز نوال في جلسة نقدية من جلسات أسرة الكاتبات بالنادي الثقافي , ونلاحظ أنها تنهي السطر الكتابي بقوافي موحده , مما جعلها تقدمه كديوان شعر , لكن المناقشة صنفت العمل على أنه ليس شعرا , بعدها اختفت الكاتبة من المشهد الثقافي تماما.
_______________________________
* نعيد نشر هذا البحث لسببين أولا لأهميته وثانيا تمهيدا للجزء الثاني قريبا على أثير
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC