من الحطب إلى الذهب: مقارنة أنتروبولوجية بين حكاية سعودية وفرنسية
باريس -الطيب ولد العروسي
الدكتور محمد الجويلي هو واحد من بين أهمّ المفكّرين التونسيين من أبناء جيله . له أكثر من عشرة مؤلّفات بعضها في التأليف الانتروبولوجي و الفكري، والآخر في الإبداع الأدبي حظيت باهتمام النقاد في العالم العربي وفي تونس وكُتبت حولها مقالات و مؤلّفات و اقتطفت منها نصوص أدرجت في البرامج الرسميّة المدرسيّة التونسيّة تتعلّم منها الأجيال . كتابه الأخير ” من الحطب إلى الذهب : مقارنة انتروبولوجيّة بين حكاية سعوديّة و حكاية فرنسيّة من التراث الشفوي ” الصادر عن وزارة التعليم العالي السعوديّة – الملحقيّة الثقافية في باريس عن منشورات ضفاف ( 2014) له مذاق خاص كما يقول مؤلّفه . الكتاب يلاقي اهتماما كبيرا لأنّه يقارن بين حكاية سعودية وحكاية فرنسية، كما يجمع في أسلوب متميّز بين المتعة الأدبيّة و الرسالة العلميّة الدقيقة و يلفت انتباه القرّاء لا بطرافة عنوانه فقط و إنّما كذلك بإهدائه الكتاب لسيّدة سعوديّة مجهولة ، إهداء جميل ورد في صفحتين يُعدّ في ذاته حكاية و كتابا لعلّه يرى النور ذات يوم في البرامج المدرسيّة تتعلّم منه الأجيال من الطلّاب معاني الكرم و الوفاء ونشر الفضيلة . التقيته في باريس بمناسبة صدور كتابه و أجريت معه الحوار التالي
أوّلا أستسمحك أن نورد نصّ الإهداء كاملا ؟ فالإهداء لوحده يستحقّ في اعتقادي أن نلفت إليه الانتباه لكونه هو الرابط بين ذات الكاتب وموضوع كتابه أي بلغة الانتروبولوجي كلود ليفي ستروس استعمال الذاتية الأكثر حميميّة للوصول إلى الموضوعيّة العلميّة الصارمة؟ .
* فليكن ذلك
محتوى الإهداء:
” إلى سيدة سعودية، سيدتي نحن لا نعرف لك اسما ما نعرفه عنك فقط هو أنك سعودية. في البدء كانت حكاية. لم يمض على حلولي بالرياض أنا وعائلتي الصغيرة إلّا بضعة أيّام . كان ذلك في سبتمبر2010. قصدت وزوجتي وطفلانا الأورومارشيه لقضاء بعض الحاجات الضروريّة . ولم يكن يدر بخلدنا أنّ طفلنا الذي لم يتجاوز الخمس سنوات من العمر والذي كان يستعدّ للدخول في سنة دراسيّة إعداديّة بإحدى مدارس الرياض كان مشغولا بأدواته المدرسيّة أكثر من انشغالي ووالدته بتوفير القوت له ولشقيقته ! سحب طفلنا في غفلة منّا محفظة جميلة واتّبعنا. انتبهت والدته إلى الأمر وكنت أمامهما فقالت له ” لم يحن الوقت بعد للدراسة سنشتريها لك لاحقا ” وأخذتها منه فأثار ذلك حسرة شديدة في نفسه . لقد تبيّن أنّ ثمنها يفوق ما أخذناه معنا من الأموال. عندما هممنا بالخروج من السوق ظلّت عينا الطفل وقلبه وهذا ما فهمناه لاحقا مشدودين إلى الخلف ، إلى المحفظة التي تركها وراءه مكرها أخاك ،لا بطل . لقد تبيّن أنّه ثمّة سيّدة سعوديّة كانت تصطفّ وراءنا تراقب المشهد عن كثب. أومأت إلى ابننا خفية فقصدها يحثّ الخطى . التفتنا إلى الوراء فرأيناه يجرّ المحفظة ذاتها وراءه ما أثار استنكارنا ودهشتنا. أمرناه بأن يرجع المحفظة إلى مكانها . تراجع الصبيّ إلى الوراء واقترب من هذه السيّدة وأومأ بيده إليها . لقد فهمنا في تلك اللّحظة أنّها اقتنتها له. ذهبت زوجتي إلى المرأة لتشكرها . فقالت لها: “هي هديّة منّي يتذكّرني بها ويتذكّر السعوديّة والسعوديين عندما يكبر ويتفوّق في دراسته ” ثمّ انصرفت بعد أن تمنّت لنا إقامة طيّبة في الرياض بين أهلنا وذوينا . سيّدتي كانت هديّتك أوّل محفظة يحملها ابننا ياسين إلى المدرسة وهولا يزال يذكرك بها وهديّتك مازلنا نحافظ عليها كقطعة ثمينة في بيتنا .
إليك نهدي هذا الكتاب و من خلالك نهديه إلى كلّ النساء السعوديات ، أمّهات وجدّات من اللّواتي مازلن يحافظن ّ على تقليد سنّته أمّهاتنا وجدّاتنا عبر العصور، أن يكنّ دائما و أبدا ينبوعا لا ينضب من المحبّة و العطاء ، ينذرن أنفسهنّ إلى تربية الطفل والسهر عليه وحمايته ليقوى عوده ويشقّ طريقه في الحياة متحدّيا محنها وصعابها مستعملين الهديّة ، “هديّة حبّ” : أغلى الهدايا، محفظة أو حكاية حفظتها ذاكرتهنّ ، قنديلا يضيء لأطفالنا دروب المعرفة المتشعّبة ومسالك الحياة المعتّمة. “
– كتبت العديد من المؤلّفات وتقول أنّ لهذا الكتاب مذاق خاص . هل يعود ذلك إلى محتواه أم للإهداء ؟
* للكتاب برمّته و لكنّني لا أخفي عنك سرّا . وصلتني العديد من الرسائل في تونس معجبة خاصة بالإهداء حتّى أنّني في لحظة ما خشيت أن يطغى الإهداء على الكتاب أو حكاية الإهداء على الحكاية السعودية الفرنسيّة التي انشغلت بتحليلها وتفكيك دلالاتها الانتروبولوجيّة . الإهداء يخدم الغرض من هذه المقارنة التي تكشف أنّ هموم الإنسان واحدة و إن وقع التعبير عنها بلغات مختلفة . في الظاهر لا شيء يجمع بين الثقافة السعوديّة و الثقافة الفرنسيّة و لكن ها أنّك ترى أنّ ثمّة ما يجمعهما بصفة تلقائيّة شعبيّة من خلال حكايتين هما في الحقيقة حكاية واحدة بروايتين منشغلة بالطفل و بما يؤرّق الإنسان في حياته وهو أن يتهيّأ لمكابدة الصعاب و المحن و أن يثابر دون تردّد ليضمن حياة هانئة . ما رويته في الإهداء يخدم الغرض من الكتاب في تعريف الشعوب ببعضها البعض بما في ذلك العربيّة التي مع الأسف تجهل عن بعضها الكثير . و بالطبع فقد أسعدني أن يعرف التونسيون من خلال الإهداء – القصّة وجه مشرقا في السعوديّة يتمثّل في ترحاب السعوديّين بإخوانهم العرب في المملكة . هذه السيّدة السعوديّة التي نجهل عنها كلّ شيء ما عدا أنّها سعوديّة تصّرفت بتلقائيّة و لكنّها لم تكن تعلم أنّ ما قامت به ستحفظه الذاكرة كما تحفظ ذاكرة جدّاتنا و أمّهاتنا تراثا حكائيّا يتوارثنه جيلا بعد جيل و أنّها بذلك تقدّم بلدها إلى العالم في أحسن حلّة . هناك أشياء تبدو بسيطة يقوم بها الناس في الحياة اليوميّة و لكنّها كبيرة في دلالاتها ، لا سيما عندما يتلقّفها الكتّاب و يخلّدونها في التاريخ و يعملون على نشرها وتداولها . من مهام الكاتب جاصة عندما يمتلك حسّا انتروبولوجيّا أن يظهر الجمال ويعمل على إبرازه و أن يتلقّفه لا فقط في فيما هو مخفيّ في الطبيعة و الكون و إنّما في تفاصيل الحياة اليوميّة البسيطة . طبعا المسألة ذاتيّة ونفسيّة تتعلّق بذكرياتي في السعوديّة . كان لهذه الحادثة وقع كبير على نفسي وعائلتي و لم يمض على وجودنا آنذاك أكثر من أسبوع في الرياض . لا أبالغ حين أقول لك أنّنا شعرنا منذ تلك اللّحظة أنّنا لسنا غرباء و في بلاد أهلها كرام وجديرون بالمحبّة و الاحترام . أعطتنا السيّدة بطاقة إقامتنا الحقيقيّة في الرياض .
– على ذكر الرياض . يبدو أنّك تحنّ إلى هذه المدينة . أنت تعشق باريس . وفي الحوار الكتاب الذي أجريته معك ونُشر في القاهرة (2002 ) تغنّيت بباريس أمّ المدائن كما تقول . هل لك نيّة في العودة إلى الرياض ؟
* أنا لم أغادر الرياض إلّا بجسدي و لظروف قاهرة أعادتني إلى تونس و لكن ذكرياتي في الرياض تعيش معي يوميّا أنا و عائلتي. أنا مازلت أعشق باريس لأنّي عشت فيها في سنوات شبابي الأولى وتعلّمت فيها و أعطتني الكثير ومنحتني الدكتوراه عن طريق أعرق جامعاتها ” السوربون ” و لكن محبّتي للرياض لا تضاهيها إلّا محبّتي لتونس العاصمة . الرياض مدينة كبيرة فيها كلّ المرافق العصريّة التي لا تتوفّر إلّا في مدن الدول المتقدّمة ” وفرة مراكز الرياضة و المكتبات و أماكن الترفيه بالنسبة للأطفال ” . ولكنّها على عكس هذه المدن الحياة فيها هادئة و بسيطة، بساطة القرى و الإنسان لا يتحوّل فيها إلى مجرّد رقم كرقم سيّارة عابرة. من الناحية الانتروبولوجيّة و إذا سمحت لي بأن استلهم من كتابات الانتروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه ما أتحدّث به عن الرياض . هي مدينة لا تنعدم فيه العلائقيّة و هي مكان هووي ( من الهويّة ) بامتياز . الرياض بالنسبة لربّ عائلة مثلي هي مدينة توفّر لك الوقت للاهتمام بأطفالك و كاتب و باحث أن تبحث و تكتب دون انقطاع و لعاشق للسباحة حتّى و إن بعدت عن البحر أن تسبح في ميادين السباحة المتوفّرة في كلّ مكان دون الإحساس بالضغط و التوتّر.
وخلاصة الأمر أنّني لا أتصوّر أنّني سأنهي مشواري الأكاديمي دون العودة إلى الرياض في يوم من الأيّام عندما تحين الفرصة لذلك للتدريس بإحدى جامعاتها خاصة جامعة الملك سعود العريقة التي أعتبرها جامعتي مثل منوبة في تونس و السربون في باريس ، لا سيما أنّني بدأت حين أقمت هنالك لمدّة سنة في التواصل مع زملائي السعوديين المهتمّين بالتراث الشفوي بكلية الآداب التي تصدر عنها مجلّة مختصّة في هذا المجال والحديث عن برمجة أعمال مشتركة و التعاون معهم . صدور الكتاب عن طريق وزارة التعليم العالي في المملكة وملحقيتها الثقافيّة في باريس فتح لي الشهيّة لمزيد الاهتمام بتراث البلد و أبعاده الإنسانيّة عربيّا وكونيّا .
– في حوار أجراه معك الصحفي السوري كمال البنّي على قناة فرانس24 تحدّثت عن أهميّة التراث الشعبي في حوار الثقافات و الحضارات الذي لم يأخذ حظّه من العناية كما تقول ؟.
* في العقد الأخير كثرت الندوات في جميع أنحاء العالم وخاصة في أوروبا و الولايات المتّحدة و العالم العربي المنشغلة بهذه المسألة خاصة بعد ازدياد التعصّب و استفحال الأحكام المسبقة في ما يُعرف بفوبيا الإسلام في الغرب ، إضافة إلى الحوار الكلاسيكي بين الأديان . هذه الحوارات مهمّة ومحمودة في ذاتها ولكن لا ، لابدّ من التذكير كذلك بأنّه يجتمع علماء و أكاديميون في صالونات مغلقة لعدّة أيّام هنا وهنالك يتطارحون قضايا الحوار بين الثقافات و في أغلب الأحيان لا يكون هناك صدى كبيرا لما يقولونه لدى عامة الناس من الشعوب المختلفة، لكن على حدّ علمي و أتمنّى أن أكون على غبر علم لم تُعقد ندوة واحدة – على الأقلّ بالأهمّية البالغة التي تستحقّها عالميّا – تتعلّق بالحوار بين الشعوب الذي يحفل بها تراثها . بالطبع هذه مهمّة اليونسكو أوّلا ، و الألكسو العربيّة ووزارات الثقافة و الجامعات . في الحقيقة ينبغي أن تخصّص سنة كاملة لذلك في جميع أنحاء العالم للبحث في الإرث الإنساني الشعبي المشترك . الشعوب تتحاور بطرقة لاواعية و لا تنتظر النخب حتّى تتحاور عوضا عنها، وما وجود حكاية واحدة بروايتين تُتوارثان من جيل إلى جيل في السعوديّة وفرنسا و لمدّة قرون إلّا دليل على ما قلته .
– اهتممت كثيرا في هذا الكتاب بعلاقة الحكاية الشفويّة بالطفل . هل ثمّة مقارنة في هذا المجال بين ما يُنجز في الغرب وفي العالم عموما وبين ما يتحقّق في العالم العربي ؟
* مازال البون شاسعا . الحكاية الشعبيّة مدرسة قائمة الذات ولها من الوسائل البيداغوجيّة و التربويّة التلقائيّة ما يضاهي الوسائل التي تعتمدها المدرسة العصريّة ، بل لعلّها أقرب إلى الطفل لأنّ باثها في الغالب هي الجدّة ،الصدر الحنون الذي لا يمكن أن تعوّضها أيّ مدرّسة . أكثر من ذلك فطن برونو بيتلهايم العالم الأمريكي إلى أهمّية الحكاية في معالجة تروما الأطفال الأيتام، و فاقدي السند، وضحايا العنف، و نكبات الدهر، و أسّس مدرسة في جامعة شيكاغو في سبعينيات القرن الماضي يعالج هؤلاء بالحكاية و سنّ بذلك تقليدا في الغرب . في العالم العربي هناك جهود متفرّقة هنا وهنالك لعلّ أبرزها ما قام به حسن الشامي المصري في جمع الحكايات العربية، ولكن قام بذلك في الجامعات الأمريكيّة و قضّى معظم الوقت في ترجمتها إلى الانكليزيّة و في المحاضرة حولها هنالك . في العالم العربي ألفت الانتباه إلى تجربة الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة المتميّزة في البحرين مؤسّس مجلّة “الثقافة الشعبيّة”. فهو رجل يعمل دون هوادة خارج أسوار الجامعة من أجل التراث الشعبي وسخّر هذه المجلّة لباحثين من كامل العالم العربي لجمعه وتحليله تحليلا علميّا.