القصة الجديدة .. من يكتبها ؟
علي لفته سعيد – العراق
من يكتب القصة الجديدة ؟ إن هذا السؤال يحيلنا الى سؤال آخر , من يمتلك أدوات التجديد في الكتابة القصصية ؟ قد يكون السؤال وآخره , بديهيا , وأن المبدع الحقيقي هو الذي يحدد شكل الإجابة لأن القصة القصيرة عالم خاضع لحسابات دقيقة متوارية خلف العمود الفقري للموهبة الحقيقية , ولا نتمنى أن تكون إجابتنا تنتمي إلى الأقوال المجردة , ولا نريدها للمشاكسة فقط .
فالكلمات صارت كتلا هائلة من الأقوال التي لا نفع منها , والمتضاربة في ادعاءاتها المجردة البارزة من أجل الظهور على سطح الواجهة الإعلامية المزدحمة بالآراء الفقاعية وما رأينا.. إلا محاولة لرؤية الكتابة القصصية المنتجة , سابرين أعماقها للوصول إلى منطقة مفهومة أكثر صدقا والتصاقا بالمعنى الأدبي خاصة وإنها أصبحت بالنسبة للقاص المبدع والحقيقي منطقة اشتغال وقوة وانطلاق الوعي / المراقبة والمرحلة الشفاهية , من رحم اللاوعي الإبداعي / المرحلة التدوينية , التي يتميز بها المبدع عن غيره .
ولأنه أي المبدع يود أن يأتي بشيء جديد معبرا من خلاله عن قدرته وإمكانيته وتفوقه وتواصله فيكون عندها باحثا ومنقبا عن طريق يسلكها ليميزه عن الآخرين وتكون هويته البارزة فيما لو توقف الآخرون نقادا ومتلقين في نقطة تقاطع الأضواء للكشف عن المميز والمبدع , هم بحاجة إليه . ولأن هذا (الشيء) خاضع لسيطرة الخيال المفترض أن يكون خصبا والذي لا تحده قوانين ثابتة كجدول الضرب في الرياضيات مثلا، فإن الحراثة ستكون حسب ما يريد زراعته لا حسب المواسم أو التقليد , عندما يسمى القاص .. الباحث والمنقب محاولاته بالتجريب أو التجديد .. إذن فهو في حالة تقدم يفترض نحو الاتجاه في الصعود بعالم القصة والرقي بها إلى أعلى مستويات الفن الإبداعي وهو العارف.. أن عملية الكتابة هي تجربة ناتجة عن فعل اكتشاف الموهبة عندما دق الناقوس بلا إرادة ودون تخطيط . بل وجد رأسه أشبه بأرضٍ صالحة لا تحتاج إلا لعملية الزراعة المتأنية ليكون الحاصل بعد سنوات فنا مبدعا ..وهذا الناقوس هو الذي يحدد شكل الموهبة القادمة مع السنين. وأيضا ، ناتجة عن فعل القراءة الأولية كحركة أولى لاكتشاف الموهبة وبالتالي المطالبة الملحة لزيادة المعرفة ومساحة الإبداع في طرق ودهاليز وإشارات ما هو منشور أي أن الاطلاع هو السمة التي تقود والموهبة نحو الانتباه قبل الامساك بالقلم لتصوير الخيال/ الموهبة وتحويله إلى الذات لتكون منتجة لفلسفة مفيدة , أي أن القاص لابد له من التزود ماديا وروحيا مما قرأه ومما اطلع عليه وما تأثر به ومن ثم اكتشاف الذات والبحث في بواطن عقلية وعاطفية مخبوءة تحتاج الى تحفيز(كهربائي) ذهني .. أي مبدأ التأثر والتأثير ولا يمكن لكاتب قصة أن يكون كما النبتة البرية التي توجد نفسها بفعل عوامل الطبيعة لأن الاهمال سيكون النهاية لمشاكستها الدائمة بفعل تكوينها اللا إرادي وفي أراض لا تطؤها الأقدم.
إن كتابة القصة يجب أن تصطرع وتتصارع مع جزيئاتها المترابطة والتي قد لا تتوفر في أي فن آخر ماعدا الرواية إذا اعتبرناها قصة طويلة، وأن هذه الجزيئات ماهي إلا ذرات متداخلة .. مكثفة .. تتكون لدى مكتشفها حالة مادية ملموسة يراها وقد أصبحت كتلة كبيرة صنعها بنفسه بعد توغله بطرقها العميقة المعتمدة على عوامل نفسية وبيئية ينشأ عليها القاص ليكوّن رؤياه ورؤاه.
ومن هذا المدخل.. فإن التجريب هو عملية هضم لهذه المرتكزات ليكون القاص قادرا على (فعله) الجديد لعطي نتاجا مثمرا .. وهذه الحالة مشروعة بعد أن وجد لنفسه أسلوبا في بنيته الكتابية المترابطة التي تعطي قصديتها في قمة التأويل الذي يشارك المتلقي في صناعته , وبالتالي فإن من حق القارئ وهو المتلقي المقصود أن يطالب بعدم استلام وعيه ورميه في التيه لأن التلاعب في بنية الكتابة من سرد ومتن حكائي ولغة رائقة والمرئي والمروي وغيرها من العناصر الأساسية للقصة يقود القاص للضياع في متاهة القصدية منها سوى كومة من الأفعال المتناقضة والمكدسة رغم جماليتها في بعض الاحيان.
فنظام السرد مثلا والذي تختص القصة به وعلى أساسه سميت بهذا الاسم، والسرد بحاجة إلى حكاية والحكاية بحاجة إلى متن والمتن يقود إلى فلسفة القصدية المراد الوصول إليها وبه ننتج بنية كتابية تمتلك مقومات النجاح. إذن فعلى التجريب أن ينتبه إلى نفسه، لأن الحالة عكس هذا تسمى (الهدم) إن صح التعبير . لأن القصدية ستضيع في هيجان تجريب لا مبرر له مما يضيع على المتلقي فرصة تكوين قصدية تأويلية , رغم أننا لا نقصد بالسرد هو الشكل المتوارث لأن الشكل وصل إلى مرحلة متقدمة ليكون اختصاص القاص نفسه , ومن خلاله يستطيع أن يمنحنا دفقا فكريا وفلسفيا عندما يتلاعب تكنيكه السردي، وقد نشبه القصة بالماسة التي لا تمتلك شكلا معينا ورغم ذلك فإن محتوياتها الداخلية / الجزيئيات تصرخ بصوت عال إنها ماسة وبذلك فإنها تهيمن .. بل تسرق لب المشاهد / المتلقي.
أي أن عنصر التوصيل في بنيتها النهائية كان حاضرا عندما دخل شكل الماسة الخارجي في بؤبؤ العين وهي محطة الاستقبال الأولى التي ترسل المعلومات إلى العقل فقضية الأشكال أو البناء الشكلي للقصة يجب أن يكون متوافقا مع الفكرة التي هيأها القاص منذ لحظتها الشفاهية حتى مرحلتها التدوينية التي تعطي دمها عبر لغة معبرة عن الدلالة المقربة من الواقع كمادة أولية والمبنية بهندسة الخيال كنتيجة نهائية . ونعود إلى الإجابة إذن فالقصة الجديدة يكتبها من امتلك الأدوات الأصيلة لأنه يرى الواقع بعين الإبداع . وهؤلاء هم كتاب القصة الستينية والسبعينية والثمانينية وليس من يكتبها من ظهر اسمه الآن. لأنهم أي تلك الأجيال.. حفروا خنادقهم جيدا وراحوا يطورون وسائل السكن فيها مع متغيرات الحالة الجوية, جاعلين للشمس أبوابا وغالقين منافذهم بوجه الغبار، لأنهم عرفوا طرق (الصنعة) جيدا فنرى قصصهم خالية من التهويمات اللغوية التي يعتمدها البعض والتي تبهرنا بقدرة الكاتب على صياغة كلماته الرنانة.
إن القصة الجديدة , هي القصة المبدعة المانحة لعناصر التماهي بفنها الراقي مهما تغير شكلها ومهما لبست من أثواب لأن التجريب لا يعطي الحق في إلغاء الأسس فنرى كتاب القصة الواعين هم أقدر الناس على صياغة قصصهم , وفي نفس الوقت يمتلكون من الحذر والخوف والرغبة والقلق والقوة والمغامرة لإنتاج قصة غايتها إطعام العقل بكثير من فيتامينات الفلسفة التي يحتاجها ابن هذا العصر، وهذا القاص هو الذي يمد ذراعيه لتبقى قصصهم في الذاكرة المتلقية والنقدية أكثر من بقاء أي كتابة أخرى التي لا تمنحك إلا أحمالا فارغة في بقعة غير صالحة للزراعة.