* كل ما يرد في المقال مستخلص من كتاب دراسات استشراقية في المذهب الأباضي الصادر عن دار الغشام لـ عبدالرحمن السالمي
دراسات استشراقية في المذهب الأباضي
قراءة في السلسلة الصادرة عن دار الغشام؛ بتحرير عبدالرحمن السالمي
بقلم سعود الزدجالي
خلال الفترة الأخيرة صدرت عن دار الغشام في مسقط سلسلة الدراسات الاستشراقية عن المذهب الإباضي ؛ وهي مقالات مختارة للمستشرق البولندي المتمزِّغ تادايوش ليفتسكي T.Lewicki (1906-1992م)، وسأحاول في هذه المقالة أن أضع القارئ في إطارها، وبالتحديد سيكون حديثي مركوزا على الأجزاء الثلاثة الأولى للسلسلة، وهي كما يبدو من المقدمة أن محررها هو الكاتب والباحث العماني عبدالرحمن السالمي رئيس تحرير مجلة التفاهم؛ بيد أن الناشر لم يبين في الغلافين الداخلي أو الخارجي شيئا عن تحرير المقالات، أو جمعها من مظانّها المختلفة، ولكن المذكور قد وضع مقدمة تشير إلى اهتمامه البالغ بهذا الإنتاج الاستشراقي المتميز، وتشكّل هذه الكتابات أهمية كبيرة؛ لأمرين: أولهما أن ليفتسكي يعد أحد أبرز المستشرقين المهتمين بالمذهب الإباضي وتراثه في الغرب الإسلامي؛ وثانيهما أن هذه الكتابات هي تأملات في المرحلة المبكرة من ميلاد الحركة الإباضية، وما يتعلق بها من تحقيق استشراقي، وتحقيب، وتتبع للجذور العقائدية والانقسامات؛ اعتمادا على الوثائق والنقول المتوفرة، وما تتوفر عليه من إفصاح عن العقائد وتطوراتها، وانقسامات النحل المختلفة حولها بعد الجماعات الأولى في البصرة.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه المقالات؛ فإنني أود أن أنقل فقرة من كلام المحرر عبدالرحمن السالمي؛ إذ يقول: ” ومن أجل ذلك؛ فقد اهتممت منذ عقدين تقريبا بجمع مقالاته ودراساته من المجلات العلمية، كما أنني اتصلت بأسرته من أجل الاطلاع على ما خلّفه في مكتبته من مخطوطات وكتب، إن هذه المجموعات الثلاث والتي تظهر لأول مرة بالعربية في ترجمات علمية، ما تزال بالغة القيمة والإفادة”
وأود أن ألفت انتباه القارئ إلى أن ما سطّره السالمي غير صحيح البتة؛ فهذه المقالات منشورة بترجماتها ومنشورة بترتيبها عبر مؤسسة تاوالت، وبعنوان أدق، وقد أخذت برمتها، وبترجماتها من المؤسسة، كما أنها لا تحتاج إلى عقدين من الزمان، أو الاتصال بأسرة ليفتسكي، ولا أدري كيف يزعم السالمي هذا الزعم المكلوم الذي يخالف الأمانة العلمية، وحقوق الملكيات الفكرية والأدبية؛ فقد نشرت هذه الدراسات تحت سلسلة من المؤسسة (تاوالت) بعنوان: “منشورات مؤسسة تاوالت الثقافية؛ سلسلة دراسات” ومعنونة بــ(دراسات شمال إفريقية: جمع وترجمة لبحوث ذات أبعاد تاريخية اجتماعية ولغوية) من تأليف ليفتسكي، وترجمة أحمد بومزقو، وقد أعدّها للنشر وقدمها موحمّد ؤبادي، ويتبين من مقدمة الناشر (تاوالت) أهمية الدراسات المقدمة من حيث إنها ترجمة من الفرنسية لغير الناطقين بها، وقد ترجمت إلى عدة لغات كالإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، ولا أدري كيف كان لدار الغشام أن تقوم بنشر هذه السلسة دونما إشارة إلى المنشورات الصادرة من المؤسسة والتي تعد من حقوقها؛ حيث صدرت عام (2005) أي قبل عقد من الزمان، وبنفس الترجمات والترتيب، وللقارئ العود إلى موقع المؤسسة ليرى فداحة هذا التصرف من الناحية العلمية والأخلاقية (www.tawalt.com)
وتعد هذه المؤسسة رائدة في نشر الأبحاث المتعلقة بشمال إفريقيا، والمذهب الإباضي، والأمازيغية، ومن بين الدراسات التي صدرت فيها : (تسمية شيوخ جبل نفوسة وقراهم: دراسة لسنية في الأنوميا والطوبونوميا الأمازيغية) لتادايوش ليفتسكي، (2006)، كما صدر كتاب : المؤرخون الإباضيون في إفريقيا الشمالية للمستشرق ذاته عام (2007) والكتاب ترجمة لمقال من مقالاته العميقة بعنوان: “المؤرخون وكتاب السير والرواة الإباضيون الوهبيون في إفريقيا الشمالية من القرن الثامن وحتى القرن السادس عشر الميلادي”، وصدر عن المؤسسة أيضا سيرة مشائخ نفوسة، للعلامة مقرين بن محمد البغطوري، عام (2009)، بتحقيق توفيق الشقروني،وصدر كذلك كتاب: الإقرار بالإيمان: دراسة مقارنة في عقيدة الجناوني، ومن تأليف المستشرق روبيرتو روبيناتشي، بترجمة لميس الشجني، عام (2007)، وصدر للمستشرق الأخير أيضا: (العزابة: حلقة الشيخ محمد بن بكر) وهي وثيقة قديمة عن حياة نسّاك الصوامع في الإسلام، بترجمة لميس الشجني، عام (2006) وفي السلسلة مقال حولها، ولم أجد لها مدخلا في دائرة المعارف الإسلامية، وهناك دراسات كثيرة متعددة ذات شأن عال من هذه المؤسسة الرائدة، ولا أدري كيف استطاع السالمي أن ينسب إلى نفسه شرف التحرير، فضلا عن ادعاء التتبع، والترجمة، والاتصال بالأسرة، وهو على رأس تحرير مجلة رائدة، ويشتغل ضمن مؤسسة دينية؟ إن هذا لشيء عجاب!
تأتي هذه السلسلة في ثلاثة أجزاء صغيرة عن دار الغشام العمانية، معنونة خطأ بــ(مقالات مختارة لتادابوش ليفنسكي)؛ ومكمن الخطإ في أمرين: (1) أن اسم المستشرق البولندي المتمزِّغ كتب خطأ على الغلاف بالباء؛ والنون، والصواب ما أثبتناه في صدر هذا المقال، وما ورد في متن السلسلة وحواشيها؛ وفي الغلاف الداخلي؛ بيد أن الدار قد وقعت في الخطإ ثانية في الصفحة الثالثة؛ (2) أن السلسلة تتوفر على مقالات لمستشرقين آخرين غير ليفتسكي؛ لذا فإن الغلاف يشي إلى القارئ أن المقالات كلَّها له، وليس الأمر كذلك.
تقع مادة السلسلة في (24) مقالا توزعت بواقع (6) مقالات في الجزء الأول في (132) صفحة من القطع الأنيق؛ و(6) مقالات في الجزء الثاني بـ(106) صفحات؛ و(12) مقالا في الجزء الثالث بـ(178) صفحة؛ ليكون مجموع المقالات (24) مقالا في الأجزاء الثلاثة، مع الإحالة إلى مظانّ المقالات ومترجمها؛ وبما أننا قد أشرنا أن بعض هذه المقالات ليست لتادايوش ليفتسكي فإنه يجدر بنا أن نحدد المقالات المنسوبة إليه معتمدين على حواشي السلسلة، وقد نتفاوت في حجم العرض حسبما نجد في المقال من أهمية، كما أنني سأحاول التزام الحياد وعدم التدخل كثيرا في ما تحمل من مضمون إلا قدرما يسعف القارئ في الفهم والربط.
أما المقال الأول(جـ1/11-34)؛ فإنه حول كتاب السير لأبي العباس أحمد الشمّاخي، وحول تاريخ أسرته، وأصلها واختلاف المؤرخين حوله؛ وهذا المقال لم ينسب في الحاشية إلى ليفتسكي، ولم يحدد المحرر مصدر المقال؛ولكن باعتبار مادة الغلاف فإن المقال يعد لتادايوش لفيتسكي، ولعله جزء مستقطع من مقال آخر، وقد تحدث فيه صاحبه عن أهمية الشماخي الإباضي الذي عاش في نهاية (ق5هـ)، وكتابه السير الذي يعدّ مرجعا مهما للغاية في التاريخ السياسي، والديني، والاجتماعي لمناطق الجزيرة العربية، والعراق، وإفريقيا الصغرى؛ نقلت منه نسخة مبكرة إلى أوروبا (1860م) وفي عام (1884م) نشر الكتاب في طبعة حجرية بعناية طالب إباضي من نفوسة وهو سليمان بن مسعود النفوسي، وقد لاحظ ليفتسكي أن كتاب السير (أولا) يتضمن التاريخ القديم لإباضية الشرق؛ و(ثانيا) وهو الأكثر أهمية يتضمن فترات تاريخية لإباضية الغرب، وقد اعتمد الشمّاخي في جل مؤلفه على المصادر الإباضية؛ إلا أنه اعتمد أيضا على مصادر غير إباضية؛ مثل: حولية ابن الصغير، والمسعودي، وأبي إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق (ت 384 أو 399هـ)، أما المصادر الإباضية فإن اعتماده على الإخباريين المشارقة، ومسند الربيع بن الحبيب البصري (عاش حوالي القرن الثاني الهجري)، ولاحظ ليفتسكي أن كتاب الربيع عملٌ يقع في ثلاثة أجزاء بدون أدنى ترتيب؛ ويرجع الفضل في ترتيبه على شكله المتداول إلى أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم السدراتي الورجلاني، وحينما يستشهد الشماخي فيحتمل أنه يحيل إلى المسند بعد الترتيب وليس قبله، وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام؛ لما عرف به حفّاظُ الحديث من تصنيف، وتدقيق، وعنونة اعتمادا على الموضوع من مصطلح الحديث؛ لذا فإن دراسات علمية دقيقة حول المسند من هذا المنطلق تعد ذات أهمية فائقة مستقبلا، لا سيما أن العنونة لمدونات الحديث متأخرة، ولا يبعد أن يكون مسند الربيع بن حبيب مسودات لمجموعة مرويات عن شيوخه، وليس تدوينا بالمعنى المعهود عند الحفاظ (راجع المبحث الخاص بالحديث الإباضي عند جون كرافن ولكنسون، الإباضية أصولها وتطوراتها، ص 543-550، ومواضع أخرى من الكتاب ذاته)
ويعتمد الشماخي في الفصول المخصصة لإباضية الشرق على كتاب أبي سفيان محبوب بن الرحيل (في النصف الثاني من ق2هـ)، وقد كان هذا الأخير على اتصال وثيق بإمام الشراة طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي؛ حيث وجد ليفتسكي مخاطبات بينهما في كتاب الطبقات للدرجيني؛ كما اعتمد الشماخي في مصادره حوليةً لعالم إباضي عاش خلال منتصف (ق3هـ) وهو ابن سلام بن عمر، كما استقى من أبي الربيع سليمان بن يخلف المزاتي (ن471هـ) وهو أكثرهم حداثة بالنسبة لكتاب السير، ومن الإشارات اللطيفة ما أورده بعض المؤرخين من أن لأبي الربيع كتابا في الكلام وألأصول الفقه، ومن بين مصادره أيضا؛ كتاب السؤالات لأبي عمرو عثمان بن خليفة السوفي (بالسين)، وكتاب سير مشايخ نفوسة لمقرين بن محمد البغطوري وضعه سنة (599هـ)، وهو منشور في تاوالت كما سبق.
وقد لاحظ المستشرق أن أسلوب الشماخي في السير ” يتميز بقدر من الإتقان، واستطاع أن يتفوق به على باقي الحوليات الإباضية المنتمية إلى شمال إفريقيا، باستثناء طبقات الدرجيني؛ إلا أن حرص الكاتب الجيد على الدقة يصبح في غالب الأحيان مزعجا؛ خاصة إذا تعلق الأمر باستشهاداته من باقي الحوليات الإباضية التي يصحح أسلوبها ويضبط كلماتها، وهذا التصرف لا يكون عملا مرغوبا فيه في فهم واستيعاب الوقائع، ويمكنه بذلك أن يصبح مصدر الكثير من سوء الفهم” 1/ص30.
وجاء المقال الثاني (جـ1/ 35-47)، وهو منشور في النشرة الاستشراقية عام (1968م) بعنوان: مملكة إباضية مغمورة (دولة بني مسالة)؛ لتادايوش ليفتسكي بترجمة أحمد بومزقو؛ حيث إنه وخلال عهد عبدالوهاب بن عبدالرحمن بن رستم على المملكة الأمازيغية- الإباضية وفي القرب من العاصمة تيهرت قامت ثورة لقبيلة هوارة مع قبائل أمازيغية- إباضية ضد الدولة الرستمية؛ وكانت على رأس هوارة عائلة تدعى الأوس التي عرفت ببني مسالة؛ إذ رغب زعيمهم في الاقتران بحسناء تنتمي إلى إحدى العائلات المرموقة داخل فرع من أمازيغ لواتة، وحينما قبل طلب زعيم هوارة تقدم الرستمي عبدالوهاب ليتزوجها خوفا من تحالف محتمل بين هوارة ولواتة، ولكن الحادثة تحولت من رغبة في الزواج إلى صراع دام بين الكتلتين ولّد دويلة هوارية صغيرة بالأحواز المجاورة لتيهرت، وكشفت الأحداث بوضوح تلكم الميول الانفصالية للقبائل المستقرة بأحواز المدينة على عهد الإمام أفلح؛ الذي أدرك أن سياسة نفعية بزرع الشقاق بين صفوف القبائل القريبة كفيلة بإعادة التوازن لمملكته؛ وحينما تكالبت عليه الأحداث فإن تحالفا مع الأعداء القدماء باسم الدين والعدل كان له أثره حينما صد الإمام أفلح الخطر عن مملكته بتحالفه مع الأمويين في الأندلس، ولكن الدولة الرستمية قد بلغت أعلى درجات انهيارها بضربات الفاطميين حتى اضطرت القبائل إلى التخلي عن المذهب الإباضي واعتناق الأفكار الشيعية؛ بيد أنني أعتقد أن ليفتسكي قد بالغ في تسمية الحركة الثورية لبني مسالة مملكةً إباضية، وأنه مما تجب ملاحظته أن التاريخ السياسي البشري بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص إنما هو سلسلة من الثورات الأيدلوجية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن الشعارات الثيوقراطية المتداولة، ولعلي أكون مخطئا في هذا التقدير، ولكن للوثائق حديثها المنطقي.
كما يضم هذا الجزء مقالا معنونا بـ(النكار) (جـ1/48-53) وهو منشور في الموسوعة الإسلامية لتادايوش ليفتسكي، ومن ترجمة أحمد بومزقو، والنكار فرقة إباضية لا تعترف بثاني الأئمة بتيهرت، وهو: عبدالوهاب بن عبدالرحمن بن رستم، ولهذه النحلة أسماء أخرى؛ كاليزيدية، والشعيبية، والملحدة، والنكاة، والنجوية، والمستاوة، وتشير هذه الدراسات الاستشراقية تعدد الفرق والنحل المنتمية إلى الإباضية على عكس ما يشاع حول وحدتهم وتماسكهم، وأغلب التشعبات والافتراقات ترجع إلى القضية السياسية، ويقال إن هذه الفرقة تمتد بجذورها إلى أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي، وحينما وقعت القطيعة بين الوهبية والنكار، واعتنقت مقاطعات عدة إباضية-وهبية أفكار الفرقة الجديدة قامت إمامة منشقة بسبب الأيدلوجيا الجديدة عن تيهرت، وقد بلغت هذه النكارية قوة بحيث إنها كادت أن تنهي الوجود الفاطمي في المغرب، وقد اعتنقت النكارية الاستعراض أيضا وهو مصطلح يطلق على عمليات القتل والتصفية لمرتكبي الكبيرة على غرار الأزارقة، وتعد من أخطر الممارسات الإرهابية التي مارستها فرق الخوارج في التاريخ ورفضها المعتدلون منهم كالإباضية والصفرية (راجع الشهرستاني)
ومن بين مقالات الجزء الأول مقال بعنوان: وثيقة إباضية لم تنشر؛ لتادايوش ليفتسكي حرر في النشرة الاستشراقية عام (1959م)؛ وهي حول هجرة أهل جبل نفوسة،إذ تدل الوثيقة على توزعات للساكنة الأمازيغية-الإباضية خارج الجبل وهو الموطن الأصلي لها؛ معتمدا على الشماخي، وكتاب السير لأبي الربيع سليمان بن عبدالسلام الوسياني؛ إذ تظهر الوثيقة على تسرب جماعة لا بأس بها من الأمازيغ الإباضية إلى الساحل؛ وبحسب نادرة حكاها الوسياني: أن في الساحل ثلاث مائة من نساء الإباضية الصالحات يدعون للإسلام؛ وعليه يطرح ليفتسكي تساؤلا ما إذا كانت الدعوة موجهة إلى مسيحيي الساحل أم أنها تتعلق بدعوة المخالفين من المسلمين؟ والظاهر أن هذه الطوائف قد اختفت بعد ق6هـ.، ويأتي المقال الخامس للمستشرق تادايوش عن التوزيع الجغرافي للتجمعات الإباضية بشمال أفريقا خلال العصر الوسيط (جـ1/ 71-76) وقد نشر هذا المقال في النشرة الاستشراقية عام 1936م؛ بترجمة أحمد بومزقو، ولكن يظهر من قراءة المقال أنه يقف على المصادر حول التوزيعات الجغرافية أكثر من التوزيعات ذاتها.
ويبدو أن المقال التالي والذي عنون بـ(أصول المذهب الإباضي بإفريقيا الشمالية وفروعه الثانوية) يعد تكملة للمقال السابق، وكأن المستشرق قد قسم المقال إلى قسمين: اعتنى في الأول بمصادر الترجمة عن هذه التوزيعات، واعتني في الثاني بالتوزيعات وأصول المذهب وأماكن استقرارها، ويأتي المقال في جـ1/77-132؛ علل الكاتب فيه اعتناق أمازيغ إفريقيا الشمالية للمذاهب الخارجية؛ حيث نقلت هذه التجمعات البشرية مطالبهم ذات البعد الاجتماعي والوطني إلى الحقل الديني، من خلال اعتناق المذاهب الخارجية، كشكل من أشكال الاحتجاج ضد الضغط العربي السني، وقد انضوت هذه القبائل تحت لواء اتجاهين: الاتجاه المتشدد متمثلا في الصفرية (رغم أنها تعد من المعتدلين نسبيا)، والمعتدل متمثلا في الإباضية؛ بيد أن بقايا الصفرية قد انتهت أواسط القرن العاشر الميلادي حينما تخلى محمد بن الفاتح المدراري عن الصفرية وتبنى المذاهب السنّية، وسوف يلاحظ القارئ التكرار الذي يعتمده تادايوش ليفتسكي في المقالات، وربما يرجع ذلك إلى أنها كتبت في مظان مختلفة، وفترات متباعدة، وتيسيرا للقارئ لربط الموضوعات؛ لذا فإن جمعها في سلسلة مترابطة كهذه يظهر عيوب التكرار في الكتابة العلمية، كان على الناشر أن يتداركها بإتقان أفضل.
وفي المقال ذاته يورد المستشرق أسماء فروع الإباضية، وموطن كل منها، وهي الإباضية الوهبية أو العسكرية، وهم ينعتون أنفسهم بأهل المذهب، وأهل الدعوة، ثم النكار وقد أفرد لهم مقالا سابقا في مناهضتهم للدولة الرستمية بتيهرت، والنفاثية وكانت إقامتهم بقنطرارة ببلاد الجريد، وتعد النفاثية كذلك حركة ضد الإمام الرستمي أفلح، والخلفية أتباع خلف بن السمح بطرابلس وهي تعد فرقة متشددة، والفرقة الخامسة هي دويلة مستقرة غرب تيهرت، والسادسة العميرية التي ابتعدت عن أفكار الإباضية الوهبية، والسابعة هي الحسنية أو الحسينية وهي تقترب في أفكارها من العميرية، والثامنة هي الفرثية وهم ينتمون إلى أئمة الدولة الرستمية حيث رأسها هو سليمان بن يعقوب بن أفلح بن عبدالوهاب بن عبدالرحمن بن رستم، والتاسعة هي السكاكية وكانت هذه الفرقة منعوتة من قبل الوهبية بالمشركين؛ إذ كانت أفكارها متشددة (وللمقارنة بين هذه الفرق اللاحقة والفرق الخارجية القديمة يمكن الرجوع إلى الشهرستاني في الملل والنحل، تحت عنوان: الخوارج ص106-137، بيروت: دار الكتب العلمية 1990) وأشار ليفتسكي إلى أنه إثر تداعيات الحروب المختلفة بين الإباضية والفاطميين وما تبع ذلك من قمع للقبائل الأمازيغية الإباضية بدأ مسلسل تراجع المذهب الإباضي بشمال إفريقيا؛ حتى انحسرت في المزاب، وثلثي جزيرة جربة وزوارة على الشاطئ الطرابلسي الغربي، ونصف جبل نفوسة، وانتهت إلى فرقتين: الوهبية والنكار، وخصص الكاتب الجزء الأخير من هذا المقال بالتجمعات الإباضية ببرقة وطرابلس (جـ/89-132).
وفي الجزء الثاني ترد مقالات متعددة؛ يأتي الأول عن عادة وثنية في القبائل الأمازيغية بعد دخول الإسلام، وهي (عبادة الكبش بتونس المسلمة) للمستشرق تادايوش لفيتسكي، وقد نشر في مجلة الدراسات الإسلامية عام (1935)؛ بترجمة أحمد بومزقو، وهو يقع في الصفحات(جـ2/11-18)، أما المقال الثاني؛ فهو محاضرة ألقاها ليفتسكي في مدينة بني يسقن مارس عام 1985؛ بترجمة يوسف أطفيّش، مع تغييرات طفيفة يستدعيها التحرير، وكانت المحاضرة بعنوان: جماعة المسلمين بالبصرة ونشأة الإمامات الإباضية؛ ويقع في الصفحات (جـ2/19-36)، ونلاحظ أن ليفتسكي يستخدم مصطلح (جماعة المسلمين) ويقصد به ما يقصده الإباضية من أتباع المذهب خاصة دون غيرهم، وأنه أطلق مفردة (الإمامة) بالجمع للدلالة على تعدد البؤر الحاكمة والدويلات لهذه الجماعة مع تعدد النزعات، أما المقال الثالث؛ فإنه يعد مدخلا في الموسوعة الإسلامية بعنوان: الإباضية، وبترجمة يوسف أطفيّش، ويقع في الصفحات (جـ2/ 37-84)، وقد أشار المحرر عبدالرحمن السالمي في المقدمة أن من بين الدلالات التي تشير إلى أهمية ليفتسكي كمستشرق متمزع معني بالإباضية؛ ما ورد في دائرة المعارف الإسلامية؛ حيث تأتي غالب المداخل مكتوبة من قبله؛ بيد أنني حينما رجعت إلى أهم مواد الدائرة، وهو مدخل (الإباضية) فوجدته لـ(ده موتيلينسكي A. De Motylinski) في الصفحات (جـ1/55-59) من موجز دائرة المعارف الإسلامية بطبعة حاكم الشارقة، وطبعة الدائرة القديمة حيث تتوفر مجلدات منه في المكتبة الإسلامية بروي، كما يتوفر الموجز في مكتبة المعرفة، وهو على الشبكة العالمية للمعلومات ، وربما يقصد السالمي الموسوعة الإسلامية Encyclopedie de I’Islam؛ أو لعله يقصد مداخل أخرى لتادايوش ليتفسكي في دائرة المعارف الإسلامية لم أقف عليها (لا أدري بالضبط)، ويأتي المقال الأخير في الجزء الثاني للمستشرق ذاته، وقد نشر في مجلة الدراسات الاستشراقية بتاريخ 1949؛ بترجمة: حنان بنوضي؛ عن بعض الأعراق الليبية الواردة القصيدة المشهورة للشاعر اللاتيني كوريبوس Corippus عام (549م) يثني فيها على أعمال القائد البيزنطي الذي هزم القبائل المتمردة في شمال أفريقيا عام (546م)، ويقع المقال في الصفحات (جـ/ 85-106)
وجدير بالذكر أن ما ورد في مقال (الإباضية) بشأن العقائد جدير بالاهتمام؛ حيث أشار ليفتسكي إلى أن الإباضية تشكل مع الصفرية الفرع المعتدل من الخوارج، ويتميزون عن بقية الخوارج المتطرفين الذين يمثلهم الأزارقة، ويتميز هؤلاء بمسائل أشدها خطورة هو (الاستعراض) (جـ2/ص76)، وفي هذا السياق تنبغي الإشارة إلى كتاب بيير كوبرلي (مدخل إلى دراسة الإباضية وعقيدتها) حيث يصرح أن الصيغة النهائية للعقيدة تعود إلى فترة متأخرة، وحده النقد الداخلي كفيل بإظهار النقاط العقدية التي يمكن إرجاعها إلى مؤسس الفرقة أو على الأقل بالتمييز بين العناصر العتيقة والإضافات اللاحقة(ص213) أي أن العقيدة أخضعت لسلسلة من التعديلات التاريخية والسياسية، وقد استعان كوبرلي بتحفة الأعيان، وكشف الغمة، على أنني أعتقد أن المؤلف الأخير (الكشف) حاول إرجاع العقائد القديمة بشأن المواقف من الصحابة، كما أنه لابد التوقف على الظروف الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية لبعض العقائد؛ كعقيدة خلق القرآن (في هذا السياق نحيل القارئ إلى المقالات التي كتبها الباحث سعيد الطارشي في مدونته http://saeedalialtarshi.blogspot.com/2012/01/blog-post_29.html، وحل النزاع في عمان عن خلق القرآن يمكنك مراجعة كوبرلي 2011 ص217-219 )
وفي الجزء الثالث يأتي المقال الأول (3/ 11-24) بعنوان: (الحلقة: مجلس العزابة؛ مجلس ديني عند الإباضيين الوهبيين) للمستشرق تادايوش ليفتسكي؛ نشر في دائرة المعارف الإسلامية بترجمة عبدالله زارو، لكنني لم أجد هذا المدخل في النسخة العربية من الدائرة (ط2 1969) أيضا، وتعد الحلقة تنظيما غريبا لا يبعد مفهومه عن الرهبانية عند أهل الكتاب أو التصوف، من حيث اشتراط (حياة العزوبة) على كل أعضاء الحلقة، ويشير ليفتسكي إلى أن الحلقة لم تكن في البداية سوى مستمعين إلى علّامة في أمور العقيدة والفقه، تحولت إلى شبه تنظيم، سمي (مجلس العزابة) في المدن المزابية ربما بعد الاستتباع الفرنسي وقد تكون العزابة امتدادا للأفكار السياسية القديمة في البصرة عند أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة.
ويظهر المقال الثاني بعنوان أخلاط أمازيغية إباضية، وهو بصدد الأدب الإباضي المكتوب باللغة الأمازيغية؛ لذا فإن ما يتوهمه القارئ بسبب تنظيم المادة في السلسلة من أن المقال الذي بعد هذا العنوان هو مقال مستقل، ليس بصحيح؛ إذ لا يوجد في الحاشية إشارة إلى المظانّ (3/25-40)، ويأتي المقال الثالث ملاحظات إضافية للمقال السابق حول كلمات أمازيغية، وقد نشر في مجلة الدراسات الإسلامية عام1936، لمؤلفه المتمزغ البولندي أندريه باسّي Andre Basset؛ بترجمة: عبدالله زارو، مما يجعلنا نقف أمام تساؤل: هل يعد المقال السابق عن الأخلاط الأمازيغية مستقلا، والمقال الذي يليه مقالا لباسّي أغفلت السلسة الإشارة إلى مصدره أم أن الأخير استدرك على ليفتسكي فكتب مقاله بناء على ما ورد عند الأول؟ والرأي الثاني أكثر رجحانا؛ إذ إننا نجد مقالا عن (النصوص الأمازيغية القديمة غير المنشورة) لتادايوش منشورا في مجلة الدراسات الإسلامية سنة 1934، ويقع في الصفحات (3/45-64) ويتبعه استدراك للمتمزغ أندريه باسّي، وكلاهما بترجمة عبدالله زارو، ومن قبيل هذه النظرات الاستشراقية المقال المعنون: نصوص مقتطفات غير منشورة من أسفار التجار والرسل الإباضيين (3/74-92) وهو لتادايوش ليفتسكي، في أوراق استشراقية سنة 1960، بترجمة عبدالله زارو، ويشكل هذا المقال أهمية من حيث الندرة الشديدة للمصادر الإباضية التي تتحدث عن العلاقات التجارية لبلاد المغارب مع غيرها.
وتأتي المقالات الأخيرة للسلسة من الجزء الثالث (3/ 93-177) للمستشرق البولندي المتمزّغ ده موتيلينسكي Motylinski ، وهو كاتب مدخل (الإباضية) كما يظهر من الطبعة العربية لدائرة المعارف الإسلامية، مما يجعلنا نتساءل عن أهمية عنونة السلسة للمتمزغ ليفتسكي مع وجود مقالات لغيره، على أنني أجد من بين أهم هذه المقالات الأخيرة: بقايا الشعائر الدينية القديمة والمعتقدات الوثنية عند أمازيغ العصر الإسلامي الوسيط، وسواء أقبلنا من حبث المنهج بتوظيف مصطلح (العصر الوسيط) أم رفضناه؛ فإن أهمية المقال تنبع من كونه وثيقة تبيح لنا تتبع الأسطورة، والخرافات الدينية بعد دخول التوحيد الإسلامي، وقد يتقاطع هذا المقال مع المقال الأول من الجزء الثاني من السلسلة (عبادة الكبش بتونس المسلمة) غير أن هذا الأخير يعد مقالا مونوغرافيا قصيرا بالمقارنة مع مقال موتيلينسكي في تتبعه لكثير من العادات الوثنية والخرافة.
وقد لوحظ على المسلمين الإباضية الأمازيغ الإيمان بكثير من الوثنيات، والعرافة، والنبوة المزعومة، وعبادة الشمس والقمر، والأوثان كما لاحظ ابن خلدون؛ فالأمازيغي مهما كانت انتماءاته المذهبية؛ فإنه لا يمكنه التخلي أو التنكر للأعراف والمعتقدات الدينية؛ وإذا كان شيء من هذه المعتقدات يتناقض مع التوحيد؛ فإنه لا بأس من إخفائها؛ لذلك فلا يستبعد أن تكون بعض الأساطير والقصص، وحكايات من قبيل حديث أوثان مازن بن غضوبة، وكرامات الأولياء، والشخصيات التي تولت الإمامة في عمان قد حيكت في فترة لاحقة تأثرا بكتابات الشماخي وغيره من إباضية الأمازيغ؛ لذلك فإن هذه القضايا تعد مادة خصبة للدراسة والتمحيص.
ومن الجدير بالملاحظ أن المقال الأخير (وثائق ومراسلات) يعد استدراكا على مقال ليفتسكي (وثيقة إباضية لم تنشر حول هجرة أهل جبل نفوسة) في الجزء الأول من السلسلة؛ لذا كان الأولى منهجيا إعادة النظر في تصنيف المقالات وتبويبها، في السلسة كاملة في حالة عدم الاعتراف بحقوق مؤسسة تاوالت صاحبة المقالات المنشورة.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC