الشاعر اللبناني عيسى مخلوف لــ”أثير” : علينا تأسيس ثقافة ديموقراطية مدنية تُخرج مجتمعاتنا من العنف
حاوره – عبدالرزّاق الربيعي
أكّد الشاعر اللبناني عيسى مخلوف ” هناك تحديات كثيرة تواجه الثقافة العربية، علميّة ومعرفية واجتماعية، وهي ليست وليدة اليوم، بل هي قائمة دائماً ومنذ قرون. لقد حذّر الفيلسوف ابن رشد منذ ثمانية قرون من خطر النظرة الدونية إلى المرأة والتعاطي معها كإنسان قاصر، فهل تغيّر اليوم السؤال المتعلّق بالمرأة؟ هل تغيّرت النظرة إلى الدين؟ هل وعى المثقف العربي التحولات الكبيرة التي يخضع لها العالم والتي يتغيّر معها معنى الثقافة ومعنى الإبداع؟ أليست مشكلة الثقافة العربية الآن هي، في المقام الأول، مشكلة المثقف نفسه؟ أليست مشكلة ثقافية بامتياز؟ كيف يتعاطى المثقف العربي مع الأحداث الراهنة؟ هل يشهد لها، على الأقلّ على المستوى الإنساني؟ “
وخلص إلى أنّ ” المطلوب منّا اليوم – باختصار شديد – هو التأسيس لثقافة ديموقراطية مدنية تُخرج مجتمعاتنا من العنف الذي يمارَس باسم السياسة حيناً، وباسم الدين حيناً آخر،بدون هذه الثقافة سيطول عمر الطاغية حتى وهو مسجّى في قبره”
جاء ذلك في لقائنا به في مكتبه بـ”إذاعة الشرق ” بباريس حيث التقته “أثير” حيث دار حديث حول الواقع العربي ومشكلاته وسبل مواجهتها مواجهتها للخروج من النفق
وقال ” هناك من لا يزال، على الرغم من المخاطر والأهوال، يتحرّك ويجهر بآرائه، وهناك من أودعوا السجن أو دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم. هؤلاء يختصرون اليوم ضمير شعبهم وتوقه إلى الحرية والعدالة والحياة الكريمة. يقول الكاتب الفرنسي ألبير كامو: “أن لا نسمّي الأشياء بأسمائها، أو أن نسمّيها بصورة خاطئة ومواربة، إنما نضيف مأساة أخرى على مآسي العالم”.
مشيرا أن الدول العربية ” منذ أن نالت استقلالاتها الوطنية، لم تبنَ، بصورة عامّة، مدرسة أو جامعة أو مركز بحوث بالمعنى الحديث للكلمة. كان همّ النظام العربي حماية نفسه لا حماية المواطنين. كان همّه التحكّم بمصيرهم خارج حرية الرأي والتعبير. يُطعَن الروائي نجيب محفوظ. يُطرَد المفكّر نصر حامد أبو زيد هو وزوجته وتمنع كتبه. تُحرَق “ألف ليلة وليلة”… داخل هذا السجن الكبير المفتوح على سماء نائية وبعيدة، ولدت وترعرعت حركات الإسلام السياسي العنيفة والمتشددة. من جانب آخر، ثمة مثلاً في مصر عدوّان أساسيان للثورة وهما عدوان داخليان: الأمية والفقر. أكثر من نصف المجتمع المصري يفتقر إلى التعليم، وهناك نسبة أربعين في المئة من الشعب المصري تعيش تحت خطّ الفقر، أي بما يوازي الدولار الواحد في اليوم. الأمية، الفقر والبطالة كلّها عوامل تساعد على إيجاد التربة الملائمة لحركات التطرف، وهذه الحركات، بهذا المعنى، هي وليدة أنظمة الحكم البائدة. ولئن عملت تلك الأنظمة على محاربة تلك الحركات، قتلاً لأفرادها وزجاً لهم في السجون، فلقد برهنت الأحداث أنّ الحلّ الأمني لا يجدي نفعاً، بل بخلاف ذلك، يساهم في تغذية العنف. إنّ المحاربة الفعلية للتطرف تبدأ بإيجاد التربة الملائمة لمجتمع القانون، مجتمع قائم على العدالة والمساواة، وهذا لا يستقيم فعلياً بدون إعادة نظر جذرية في النظام التربوي والتعليمي بما يتوافق مع تحديات العصر. وكلها مسائل يتوقف على معالجتها مستقبل المجتمعات التي دخلت في ثورة ضد أصنامها، والتي تعمل الآن على تغيير جلدها القديم. صحيح أنّ الطريق صعبة ومعقدة، والثورة لا تزال في بداياتها، لكن المهمّ أنها بداية الخروج من النفق الطويل الذي حكم على شعوب بأكملها أن تعيش حوالى النصف قرن في ثلاّجة التاريخ. المطلوب أيضاً، وفي المقام الأول، هو التأسيس لثقافة جديدة تأخذ الإنسان في الاعتبار، تؤمن بحقّ المواطنة وبالحرية الفردية ولا تحارب حرية الرأي والتعبير واحترام الاختلاف بل تشجعهما وتحثّ عليهما”
وحول تجربته الشعرية قال “أكتب نصاً تبطل المسافة فيه بين الشعر والنثر. هنا يحضر أيضاً السرد والتأمّل الفلسفي، كما تحضر السيرة والبحث، لكن ضمن رؤية فنية واحدة تجمع بين هذه العناصر كلّها وتوحّدها في إطار أدبي”
وهذا ما أكّدته تجربته التي بدأها بـ”عين السراب” الذي صدر عن دار النهار عام 2000 وحتى كتابه الأخير الصادر حديثاً عن دار التنوير في بيروت وعنوانه “مدينة في السماء”، مروراً بكتاب “رسالة إلى الأختَين”الذي حاز على جائزة ماكس جاكوب الفرنسية عام 2009م
وحول واقع الشعر في الغرب قال مخلوف الذي درس في جامعة “السوربون” وحاز منها على شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، يعمل حالياً مديراً للأخبار في “إذاعة الشرق” في باريس، كما عمل مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية والاجتماعية في منظمة الأمم المتحدة، في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامة (2006 – 2007) “الحديث عن ذلك ، وخصوصاً في فرنسا بلد الحداثة الشعرية في القرن التاسع عشر مع شعراء من أمثال بودلير ورامبو ومالارميه، أصبح يشبه، إلى حدّ بعيد، الحديث عن اللغة اللاتينية البائدة. الصفحات والملاحق الثقافية الأسبوعية قلّما تلتفت إلى الشعر. الحيّز الذي كان يحتلّه الشعر في المكتبات هو أيضاً آخذ في التضاؤل عاماً بعد آخر. التحدي المفروض على الشعر لا يأتي فقط من عدم القدرة على تسليعه وتدجينه، بل أيضاً من اعتبارات أخرى يأتي في مقدّمها التقدّم التقني والتكنولوجي. تبدو التكنولوجيا أحياناً وكأنها تنسخ الحلم. وهذا موضوع يحتاج عندنا إلى دراسات معمّقة. ينبغي أخذ التقدّم العلمي في الاعتبار مثلما أنّ اختراع الصورة الفوتوغرافية في القرن التاسع عشر أيضاً دفع الفنانين التشكيليين إلى طرح أسئلة جديدة. أما في العالم العربي فهناك عامل آخر يمكن إضافته إلى هذه العوامل، وهو قلّة الاهتمام بالشعر، حتى من قبل الشعراء أنفسهم، أو بالأحرى غالبيتهم، على الرغم من كثرة الإقبال على كتابته. إنّ كثرة الحديث عن الشعر لا تعني، بالضرورة، حضوراً فعلياً له”
وأضاف الشاعر اللبناني قدّم مسرحية “قدّام باب السفارة” بالاشتراك مع نضال الأشقر، في بيروت وبعض العواصم العربية والغربية، ومسرحية “شروق” التي أنهى كتابتها. وكان آخر كتاب صدر له عن دار “التنوير” في بيروت بعنوان “مدينة في السماء” الذي ستصدر ترجمته الفرنسية في باريس في شهر مارس المقبل. وقد نُقلَت بعض كتبه ونصوصه إلى لغات عدّة.“عندما نعي أولاً أنّ الاقتصاد وحده لا يستطيع أن يسيّر العالم، وأنّ تهميش الآداب والعلوم الإنسانية سينعكس، كما هو حاصل الآن، على الإبداع، وسيترك آثاراً سلبية على جميع المرافق حتى على الاقتصاد نفسه. عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي الراحل كلود ليفي ستروس كان يردد دائماً: “إذا لم تلتفت الحضارة الغربية من جديد إلى بعض قيم الحضارات التي أبادتها، فهي مهددة بالزوال”. من تلك الحضارات، نذكر الحضارة ما قبل كولومبية التي كانت تولي اهتماماً كبيراً للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وتعتبر أنّ الإنسان ينتمي إلى الطبيعة وليس العكس، أي نقيض ما هو متّبع اليوم مع الرأسمالية المتوحشة التي لا تفتأ، ومن أجل المزيد من الربح، تمعن تدميراً في الأرض والهواء والفضاء، وهي سياسة لا تفضي إلاّ إلى المزيد من اللامساواة والعنف والأزمات الاقتصادية. وهنا، نذكّر فقط بأنّ هناك طفلاً يموت من الجوع كلّ خمس ثوان.
وحول علاقة المال والثقافة و تحكّم رأس المال بالفن والجمال قال“دائماً كان ثمة علاقة بين المال والفنّ، لكن ولا مرّة في التاريخ البشري كان للمال هذه السيطرة ليس فقط على الثقافة والمعرفة والجمال، بل على مرافق الحياة بعامّة. في زمننا الراهن، كلّ ما لا يتحوّل إلى سلعة لا وجود له، وكلّ ما لا يخضع إلى لعبة العرض والطلب، يصبح هامشياً ومهمّشاً إلى أقصى حدّ. هكذا، تمحورت المحاضرة حول المشهد الثقافي الراهن الذي يتغيّر معه معنى الثقافة ومعنى الإبداع، وهذا التغيّر بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الثلاثينات من القرن العشرين مع ما عُرفَ تحت تسمية “ثقافة الجماهير”، أي ثقافة الاستهلاك والمردودية المادية والربح، وتفضيل الكمّ على النوع. مع العولمة الاقتصادية صار كلّ شيء قابلاً للمتاجرة والتوظيف، ليس فقط الآداب والعلوم والفنون، الفكر والاجتماع، الأخلاق والتكنولوجيا المتطوّرة، وإنما أيضاً البيئة والطبيعة، المناخ والصحّة العامّة، بل وحياة الإنسان نفسها على الأرض. الباحث الأميركي جيرمي رافكن الذي يدرس في مؤلفاته الأسباب الاقتصادية والعلمية التي تتحكم بتطور العالم، يرى أنّ مرحلة رأسمالية جديدة بدأت مع مرحلة ما بعد الحداثة وهي تعتمد على تحويل الوقت والثقافة والتجربة إلى صناعة، وتعمل على خصخصة المجال الثقافي وتسليع العلاقات الإنسانية، حتى العلاقات الإنسانية”