عرفت فرنسا جالية كبيرة من المهاجرين، من كل بقاع العالم، رغم أن أغلبهم من المغرب العربي، لكون أن بلدانهم كانت مستعمرات فرنسية، الامر الذي سهل التحاق الألاف من المغاربة بحثا عن لقمة العيش الضنكة، وحيث كانوا يمثلون الأيادي الأساسية التي ساهمت في ترسيخ النسيج الصناعي لفرنسا. لقد أدى هؤلاء خدمات كبيرة لفرنسا في مجال بناء وتشييد مصانعها وطرقاتها ومستشفياتها، أو بعبارة أحسن ساهموا في تركيز بنيتها التحتية في ظروف لم تكن انسانية في كثير من جوانبها.
لهذه الهجرة تاريخ مليء بالآلام من جراء معاملتهم السيئة من قبل بعض الشرائح الفرنسية، حيث عرفوا العيش في البيوت القصديرية التي تفتقد إلى كل وسائل العيش الكريم، وهي بيوت مبنية باللوح والزنك، شديدة البرودة شتاء، وشديدة الحرارة صيفا، ولقد كتب على هذه الظاهرة الكثير من علماء المجتمع، كما كانت موضوعا لكثير من الأعمال الإبداعية، في مجالات، الشعر والرواية والمسرح والسينما.
فعلى شاكلة متحف الهجرة بنيويورك، قرر الوزير الأول الاشتراكي ليوبيل جوسبان في العام 2001 تشييد و تصميم متحف لتاريخ الهجرة باعتبارها مكانا تفاعليا. شٌيّد هذا المتحف في القصر القديم لمتحف الفنون الأفريقية والأوقيانية، الذي تم تشييده في العام 1931 بالقرب من غابة فنسان الشهيرة في الدائرة 12 من باريس بمناسبة إقامة المعرض الكولونيالي.
رأى هذا المشروع النور عام 2004 في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك، بهدف التعريف بمساهمة المهاجرين في تشييد وبناء فرنسا، كما أنه أٌعد متحفاً لاستحضار الذاكرة الجماعية الفرنسية، التي تعتبر أن ” فرنسي من كل أربعة هو من أصول أجنبية”.
ففي هذا المتحف يكتشف الزائر المسار التاريخي لهجرة الأسر والعائلات على الصعيدين، الشخصي أو الجماعي، أي أنه يطلع على تاريخ المهاجرين الذين وصلوا الى فرنسا في القرنين الاخيرين، وذلك عبر تنظيم معارض وأفلام سينمائية وندوات ومناقشات، إضافة إلى مكتبة ثرية تحتوي على أهم ما كتب حول الموضوع من كتب ومجلات وملفات وثائقية.
يكتشف الزائر بعض المقتنيات، حيث يرى صورا للمهاجرين وهم يملؤون سياراتهم المحملة حتى آخرها بحقائب ومشتريات مختلفة، كما بين العديد من النماذج الحية لتلك الحقائب الخشبية البائسة التي كانت تستعمل آنذاك ، كما تظهر صور مظاهرات المتسللين غير الشرعيين وصور اعتصاماتهم وتظاهراتهم في الكنائس الفرنسية، وهم يطالبون الدولة الفرنسية بتسوية أوضاعهم ومنحهم أوراق إقامتهم.
ومن ضمن هؤلاء المهاجرين هناك الموسيقيون، والمنفيون الذين لهم موقعهم في المتحف، الذي هو مكان للذاكرة قبل أي شيء، كما يقدم نماذج من صور ولوحات تذكارية، وصحف وكتب تروي آمال وأفراح عائلات وأسر كاملة جاءت من اسبانيا والبرتغال وروسيا وأفريقيا والمغرب العربي وشرق آسيا وتركيا، بحثاً عن أرض آمنة ولقمة خبز كريمة، أو عن تجارة رائجة وفنون تلقى تقديرا وإعجابا، لذا يعتبر هذا المتحف بمثابة نصب تقديري وتذكاري لكل اولئك الرجال والنساء المجهولين الذين ساهموا في بناء فرنسا الفاتنة والساحرة و الجميلة والمتحضرة والقوية منذ قرنين من الزمان. كما يقدم المتحف بعض ما يثير المخيلة ويتوغل عميقا في النفس البشرية ويحاكي المشترك الإنساني.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC