قراءة في “كرسي العازف ” للشاعر العراقي قاسم سعودي ..
محمد يونس – العراق
أعتقد بصورة غير جازمة أن حرية الشعر من حرية الشاعر وسر قوة فاعلية النص هنا من حيوية الشاعر في الموقف الذي لابد أن يكون فيه لا منتميا إلا للمعنى الإنساني ، ويلمس ذلك في التعبير الشعري سيان كان عموديا كما عند المتنبي أو تفعيلة كما عند ناظم حكمت , وفي النثر كان قبل هوميروس الشعراء وكأنهم أبناء الآلهة ، وطبعا هذا الكلام ليس انحيازا ، بل هو مستمد من روح التاريخ الأدبي ، والكثير من النقاد ممن اختصوا بنقد الشعر أو لم يختصوا ، وصراحة إن أبناء الآلهة لابد أنهم يجعلون حرية النص مرتبطة بقوة خيالهم الذي نقر بأنه أسطوري ، وانا عمدت إلى هذا المثال لأنني أدرك تماما أن الموقف الذي يحقق المصير الإنساني الأمثل في النص الشعري، والشاعر الذي يسعى إلى إلباس كيان قصيدته ثوب الحدث الشعري، ليكون مظهر القصيدة انثربولوجيا ، يسعى لإبراز موقف الذات الشعرية، وتأكيد أنماط علاقاتها كذات شعرية مع كيانها الاجتماعي، وصراحة تلك إحدى ميزات قصيدة النثر الفاعلة، ومن النماذج الشعرية الجديدة التي برزت في هذا الإطار بوضوح ، هو الشاعر قاسم سعودي في ديوانه ( كرسي العازف )، حيث نواجه بناء للحدث الشعري غير محدد في قصيدة أو أكثر، بل حتى من الصائد التي كان الإطار الوجداني يهيمن عليها ، يتمظهر فيها الإطار الذي نقصده، وطبعا صيغة الحدث الشعري ارتأيت استبدالها، بدلا من ما يطلق عند البعض ( شعر سردي)، لأن السرد والشعر يختلفان في مقوم أساس وهو اللغة، اختلاف كبير إلى حدما، وأنموذج قاسم سعودي الشعري بإيقاع يختلف من قصيدة إلى أخرى, مع محافظته على سمة الحدث الشعري, لكن مؤكد لم يهمل المعنى الشعري وسعيه إلى التكامل الجمالي, ففي أولى القصائد ( يدي اليمنى ) ينساب المعنى فيكمل صورة ويتمها ، ومن ثم يمحوها ليبدأ بأخرى، وتكون الصور معبرة عن الحدث الشعري، وعاكسة لملامحه، حيث يقول بعد تكنيك جيد في افتراضات عدة لألم يده. يدي اليمنى تؤلمنيليس من كل هذاأعرف السبب جداكنت أصفق طويلا للطغاة والبرابرة والقتلةطبعا كان تكنيك الشاعر مجديا ، في إزاحة البعد الأيدلوجيمن موضع حساس إلى آخر خالي من الحساسية ، فكأن ضربته الشعرية جاءت ختاما لقصيدته وكانت مناسبة تماما ، ولو كانت الجملة الأخيرة في موضع سابق لها لفقدت القصيدة قيمتها، وتميز الشاعر بتدريج نمو حدثه الشعري وبتراتب فني غير مخلخل . إن مهمة الشاعر هي أعمق بكثير من مهمة التلقي في معايشة نصه والإنتماء إليه ، والإحساس الأدبي في الشعر أكثر توهجا مما هو موجود في الأجناس الأدبية الأخرى ، وهنا تتجلى أهمية المعنى الأدبي , حيث الشعر خلاصة أحاسيس وتوهج وانفعال ، وهذا ما يتيح للمعنى الشعري أن يكون وحدة جمالية لا تتأثر إذا أخذ ذلك المعنى بعدا جديدا غير الذي عهد به، والمستوى الحسي الذي تشكله المفردة الشعرية إضافة إلى بعدها الرمزي دليل على أن الجملة في قصيدة النثر فاعلة ليس في السمة الرمزية بل إن الإيحاء يجعل – عبر ضرورة فنية – المعنى الرمزي يرسم ويمحو ، وكما أن ميزة قصيدة النثر عبر الصوتية تتناغم فيها الدلالة والدال والمدلول، وذلك بسياق انثربولوجي في قصائد قاسم سعودي، حيث دلالة السياق النثري واضحة التمثيل في الكثير من القصائد، وتميزت قصيدة ( ساق البالية ) في الإطار الدلالي ، وكان ذلك عبر الحدث الشعري الذي يفترضه الشاعر لنا, حيث يقول فيها باستهلال قريب من سياق الوصف الاستهلالي في السرد. الفتاة الصغيرة راقصة الباليةرأيتها اليوم تبحث مع أمها الرقيقة عن حذاء واسع في المدينة الضيقةأظنها لم تزر مدافن القمامة مسبقاولاتعرف شيئا عن الأطفال الذي يحفرون المزابل بأصبعهم الخشنةقد تجد نمط الإيقاع حادا هنا, لكن نمو الحدث الشعري التصاعدي لايمثل وجه رد فعل ايدلوجي، وقد وسع مساحة الشعري فيما بعد وضيق مساحة الحدث, حيث تتوقف راقصة البالية عن الرقص حين ترى صور الأطفال الحفاة في جريدة ما، وكان الاستهلال متميزا فنيا ، حيث استخدم الشاعر التضاد بشكل مغاير ، لكنه كثف بعده الاستاطيقي، وأكسب قصيدته حسا ساخرا أيضا عبر صورته المتهكمة باستطالة افقية . يختار الشاعر هنا لتجربته في الكتابة النثرية على وجه الخصوص ملمحا استاطيقيا طبعاً وإن اتخذ من قبح العالم مادة شعرية له، وكما أن الشاعر قدسخر طاقة كبيرة بلغة استيعابية حتى في ما هو صعب من تراكيب جمل شعرية تثير المعنى نحو عكس سريالية عقلانية إذا جاز التعبير، وكما أن الشاعر قاسم سعودي يقول في المستوى النثري وبرغم الحساسية العالية وإلتباس نسبي يعيشه المعنى، لكن وضوح قصيدة النثر عبر محتواها الانثربولوجي يزيح الالتباس ويكون المعنى في وضوح نسبي يضمن له أن يجعل الصورة الشعرية بلا زعزعة تامة واستاطيقية أيضاً وكطاقة انفعالية، ففي قصيدة ( لحم ودم ), تددرج طاقة الشاعر في انفعالها ، الذي هو وجدان نقي يحتج لصالح الإنسان، الإنسان المجرد لاغير, فيقول فيه،فقط لأنك لا تجد ما تقولهفي زحم التماثيل التي تتكاثر في المدينةالتماثيل المسكونة بالحراب والتصفيق والخسائر العريضةالتماثيل التي تحاول مرارا أن تكلمك دون جدوىفقط لأنك من لحم ودمأراد الشاعر أن يبقى في أسلوبية ابتكارية بنسبة معينة, وفي تمثلها استلهمت من مراحل شعرية غير بعيدة , فنجد في قصيدة التفعيلة في السبعينيات هذا النفس الشعري موجود، وفيما بعد تأكد في قصيدة النثر أيضا, لكن الشاعر وسع أفق قصيدته وأكسبه بعد المعاصرة ، وعلى الأخص في السمة النصية، حيث إن أغلب القصائد برغم تعدياللغة الشعري، ما تضيف عدة كلمات لها حتى تكون قصة قصيرة جدا, وطبعا المقصد ليس ضد الشاعر, لأنه حدد ملامح نصه شعرا بسياق نثري، ولابد من تفهم أن الشعر أعمق وأوسع من غيره من الأجناس الأدبية، كما أنه في إطار المعنى أكثر امتياز،إن قصيدة النثر هي وحدة حيوية سعدت عبر إرادة احتجاجية بأدلة مقنعة تغيير وجه الخارطة ولكن ليس عبر إعادة صياغة لما تمثل به الشعر العربي القديم من طابع شعري يؤثر سلبا في مناحي الحياة ويفسدها إلى حد كبير عبر مناحي المديح والذم , وإنما عبر إخراجه من وادي عبقر إلى خضم الحياة اليومية وتبديل إيقاعه إلى ما يتوافق مع إيقاع الحياة , وتغيير التأمل مع المجردات إلى تفاعل جوهري مع المعاني والحس الإنساني والأهداف النبيلة بدلا من تلك الشجاعة الحمقاء في التطرف إلى القبيلة أو تحسين صورة ايدلوجيا بالمديح , ولابد اليوم أن ينتصر الشعر لنفسه ، ويكسر تلكالأشكال من الصياغة الشعرية التي عرفتها العرب منذ بداية صيرورة الشعر ونشأته عندهم، والاحتجاج النثري المترجم عبر الحدث الشعري صراحة قد مثل مرحلة مهمة من مراحل تطور الشعر قيميا وجماليا, والإطار الاستاطيقي في الشعر حديث وقد واكب الاحتجاج النثري في الصورة والإيقاع والإيحاء أيضا.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC