اللغة الموطئة
د. عارف الساعدي – العراق
تعد كتابات الناقد عبد الجبار داود البصري من أولى الكتابات المنشورة في الصحافة العراقية التي انطلقت من النصوص الشعرية، وقد ظهرت تلك الكتابات قبل شيوع المناهج النصية في الوطن العربي إذ كانت عبارة عن وصف موضوعي للقصائد التي يدرسها، وربما اسهمت كتابات البصري في الاهتمام بالنص وبالقصيدة دون الاهتمام بشخوصها – دون علم بالمناهج الحديثة – حيث كتب البصري في كتابه “مقال في الشعر العراقي الحديث” 1968، مبحثاً عن النقد في العراق ولم ترد أية مفردة تشير إلى منهج أو تيار حداثي أو ما شاكل ذلك كل ما أورده وكان يسميه “النزعة” مثل “النزعة التاريخية أو النزعة التجزيئية”، وبهذا لم تكن المناهج ذات تأثير كبير في لغة البصري، إنما كانت لغته – في الكثير من النصوص النقدية – تهتم بالقصيدة ولا تخرج كثيراً عنها، وبهذا الشكل أسهمت لغته النقدية في أن تكون موطئة للغة نقدية جديدة تختلف عن اللغة المقالية”، وحتى بعد دخول المناهج كان البصري من الدعاة إلى الأخذ من المناهج كلها، والاستفادة منها جميعاً، وقد ظهرت مثل هذه الدعوى بشكل واضح على لغة البصري النقدية، فنصه حافل باللغة الاستعارية المزركشة، كما أنه في الوقت نفسه تجده حافلاً باللغة الواصفة الموضوعية، كما نجد إجراءً نقدياً يباشر النصوص من دون الاستعانة بمفردات السياق الخارجي، كذلك نجد اختفاءً للذات الانطباعية، وعلى الرغم من دعوات البصري بتبني هذا الاتجاه في الكتابة النقدية، إلا أن البعض يرى أن صورة الناقد المثالي ما هي إلا شقشقة لسانية، ولكنها شقشقة مفيدة فيها سمو المثل الأفلاطونية واستحالتها معاً.
كذلك يرى البعض أن مصطلح “التكامل” يصدر عن أمر جوهري وهو أن المناهج والنظريات الأدبية تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً وبهذا لا يمكن أن نضم عدداً من المصطلحات ونلفقه مع مصطلحات أخرى تنتمي إلى نظرية أخرى مخالفة معرفياً لها لأن مثل هذا الأمر ينتج تناقضاً شديداً وأكد نقاد آخرون أن تبني مثل هذا الاتجاه “لا يعبر عن رؤية منسجمة، وأن حاصل مجموع الرؤى المختلفة لن ينتج في النهاية سوى قراءات تلفيقية هجينة، فضلاً عن تعذر تطبيق دعوات شمولية كهذه”، ربما كان حديث النقاد يخص تبني المناهج ومدى تأثيرها على نتائج الناقد وأحكامه التي تكون قلقة ومتناقضة، ولكن هذا الأمر لا يمنع اللغة النقدية من أن تستعير مفرداتها ومصطلحاتها من مجموعة من المناهج، كما تأخذ المناهج نفسها مفرداتها ومعجمها من بعض العلوم الصرف كعلم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد أو العلوم اللسانية الأخرى والتي دخلت ميدان النقد وعاشت فيه، كذلك استطاع الناقد في اللغة الوسيطة الموطئة متمثلاً بكتابات عبد الجبار داود البصري من أن ينتج نصاً نقدياً فيه العديد من اللغات النقدية وذلك في حديثه عن البيت الشعري قائلاً: “في البيت الشعري ما في قصور النبلاء وقلاع الأقطاعيين من الأسرار والمغامرات وفيه ما في أروقة الدبلوماسيين من الدهاليز والأنفاق والمخابئ… إندرس ملك أمرئ القيس وقصوره ولكن وقفته بين الدخول وحومل ما زالت قائمة… وبيت الشعر كالحياة يجمع المتناقضات والأضداد ولا يسد بابه بوجه أحد فإلى جانب أبي نواس وخابية الخمر هناك عمر بن الفارض… وإلى جانب وعاظ السلاطين هناك شعراء الثورة والنضال… إن دور السكن تقوم بوظائف عديدة أبرزها أربع، الأيواء، الخزن، الترفيه، إتقاء الأخطار ومن وظائف البيت الشعري أن يأوي كل من يلجأ إليه… ومن وظائف البيت الشعري الخزن والحفظ… فلقد حفظ هذا البيت تقاليد العرب ومآثرهم، وأيامهم ومعاركهم وعلومهم ومعارفهم، ومن وظائف البيت الشعري تهيئة أجواء الراحة والترفيه… والبيت الشعري المتعدد الطوابق المتعدد الوظائف… هو متعدد السراديب والمخابئ، والأنفاق ما يعرف باللاشعور في علم النفس وهو سرداب عميق جداً من سراديب النفس البشرية يزخر بالرغبات المكبوتة والنزعات المحرمة أو الغرائز الوحشية…”.
لقد تعمدت أن أورد هذا النص الطويل المجتزأ من مبحث متكامل طويل أيضاً عن البيت الشعري، لأنه – كما يبدو- يمثل بشكل واضح طبيعة اللغة النقدية التي يتعامل بها البصري، كما أنها تمثل منهجه في الرؤية وفي طبيعة المعالجة، لذلك جاء هذا النص حافلاً بتعدد زوايا النظر، وتنوع المناهج المستخدمة، وتحول اللغة النقدية داخل هذا النص من موضوع إلى آخر بحسب طبيعة الرؤية التي تدور حول موضوع “البيت الشعري” وأولى الملاحظات على لغة البصري أنها لغة حميمة مأنوسة ومألوفة لا تتعالى على قارئها، كما أنها لا تنزل إلى السفح، فالناقد في لغته هذه يتحدث إلى القارئ لا من خلال ذاته المباشرة وإنما من خلال النصوص الشعرية، فهو لا يدخل بتحليل للنص الشعري وإنما ينسج عليه حكاية مألوفة وطريفة وينتج من خلالها لغة نابعة من تلك النصوص، وربما كان جزءً من حميمية هذه اللغة نابعاً من طبيعة الموضوع المعالج وهو البيت الشعري الذي أضفى بجمالياته على طبيعة اللغة النقدية، واللغة الحميمية المأنوسة جاءت من خلال وضوح المفردات ووضوح دلالتها فكل مفرداته لا تحتاج إلى فك شفرة أو أنها معقدة أو ذات دلالات متداخلة، فالوضوح يشكل علامة أساسية من علامات لغة البصري، فنجد “قصور، نبلاء، إقطاع، أنفاق، دهاليز، مغامرات، أسرار…”، كما أن ألفة وحميمية تلك اللغة جاءت من خلال خلو النص النقدي من التراكيب المعقدة إذ لم تخضع لغة البصري للدقة الاصطلاحية أو المنهجية، وكانت تمس معجم النقد الحديث بخفة وانتقائية بسبب حداثة العهد مع التداول المنهجي من جانب ونزوع الناقد ورؤيته المنهجية من جانب آخر.
لذلك جاءت لغة البصري حرّة ومشعّة ودالّة ولكنها في الوقت نفسه خالية من “الأنا الانطباعية” المباشرة التي تملي وتسرد الآراء القسرية واضحة، كما أن لغته تعاملت مع بعض مفردات المناهج والأخص المنهج النفسي إذ وردت “اللاشعور، سرداب، النفس البشرية، الرغبات المكونة، النزعات المحرمة، الغرائز الوحشية…” حيث يكون الحاضنة لهذه المفردات هو “المنهج النفسي” الذي استعار البصري بعضاً من مفرداته.
إن هذا النص النقدي يتسم بالشمولية والاتساع كما أنه يحتوي على الكثير من التحولات داخل المتن النقدي الواحد، فنجد لغة مزركشة استعارية حين يتحدث عن البيت الشعري بأنه “بناء متعدد الطوابق بشكل لم تتوصل إليه الخدمة الحديثة بعد، فهي لا تشبه طوابق أية عمارة لأن بعضها لا يعلو البعض الآخر، ولا تشبه البناء المتعدد الأجنحة لأن الجناح فيه لا يتلو الجناح الآخر” ففي هذا النص تتضح الاستعارات المبنية من مفردات متداولة في الواقع اليومي، ولكن الناقد استثمر المفردات اليومية ليشكل منها نصاً استعارياً للبيت الشعري “طوابق، شكل، هندسة، عمارة، بناء، جناح..”، وهي مفردات عملية متداولة يومية أخذها الناقد وشكل منها نصاً معبراً عن الموضوع المراد معالجته، كما أننا نجد في النص ذاته لغة وصفية من خلال حديثه عن وظائف البيت الشعري التي “لا تختلف عن وظيفة أي بيت آخر مبني بالقصب أو الخشب بالأجر والكلس، بالاسمنت والحديد، فالمعروف أن دور السكن تقوم بوظائف عديدة…” وهنا وقف الناقد بلغته الواصفة للأشياء من دون أن يتدخل أو يحوّر الحديث حسب مزاجه، حيث تحدث بلغة نقدية واضحة، كما نجد لغة فيها شيء من المنهج وبالأخص النفسي والاجتماعي، لهذا من الممكن أن يكون هذا النص النقدي وغيره من النصوص الكثيرة للبصري والتي لا تختلف -كثيراً- في لغتها النقدية عن هذا النص من حيث الشمولية والوضوح والحميمية في كتب متعددة له، نواة “للغّة الموطئة” التي تأخذ مكانها في أولى سلالم “اللغة الوسيطة” كما يمكن أن يكون هذا النص وغيره جزءاً من طموح البصري الذي ينادي به دائماً حيث يقول “نطمح أن تحقق لنا نهايات القرن العشرين مناهج أقل تجزيئية وأكثر تكاملية”، ولكن على الرغم من حميمية هذه اللغة إلا أنها تبقى غير محددة وخالية من المصطلح الذي يعالج قضايا النقد المهمة.
___________________________________