تلعب المقاهي في فرنسا بشكل عام وفي باريس بشكل خاص دورا ثقافيا بامتياز، حتى أصبح كل مقهى يختص بمناقشة موضوع معين، ، إذ تم بعث المدرسة الوجودية في مقهى “لي دو ماغو” من طرف الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر وزوجته سيمون دي بوفوار والكثير من أصدقائهم، كما عايش الكثير من الأدباء تطورات المدارس الأدبية والفنية في مقهى “دي فلور” القريب منه، إذ كان المفكرون والأدباء والفنانون يعتبرون هذه الفضاءات بمثابة مراكز ثقافية، وفي هذا النطاق يدخل المقهى الفلسفي الكائن بالقرب من أوبر باستيل، المبنية على أنقاذ سجن الباستيل المشهورة، حيث يلتقي فيه مجموعة من الكتاب والفضوليين والمستمعين إلى النقاشات التي تدور حول الفلسفة مرة كل يوم أحد عبر مختلف أشهر وفصول السنة.
ساهمت هذه الجماعة في إيصال وبلورة الفعل الفلسفي، لأنه ورغم أنه وجد معارضين كثر كانوا يرون بأن الفلسفة لا تنزل إلى الشارع، وهي ليست في متناول كل من هبّ ودب، إلا أنها وجدت مساندين كثر مثل الفيلسوف إذغار موران Edgar Morin ، الذي شجّع هذه الطريقة والتي يرى بأن أفلوطين وأرسطو كانا يعملان بها، لأنهما كانا يريدان تشجيع الجمهور على بلورة فكرهم النقدي والاهتمام بمشاكل وهموم العالم. إذ يتناول رواد هذا المقهى الفلسفي مجموعة من المواضيع، مثل مشكلة الوجود والحب والموت والسلطة والحدة وما بعد الحداثة، كما ناقشوا مشكلة الأيديولوجيات الكبرى، سواء كانت سياسية أو دينية والأزمة الاقتصادية ونتائجها عن المجتمعات، ولا شك بأن الكثير من الناس زاروا هذه المقاهي مرة واحدة أو عدة مرات، متباهين بأنهم تعرفوا عليها، وإن وجدت هذه الأماكن إقبالا متزايدا، فإن ذلك يعني وجود طلب ملح، وبالتالي، فإنه لا يمكن لا للفيلسوف ولا لغيره أن يتجاهل معطيات ووقائع وطلبات عصره.
بدأ هذا المشروع الثري والمتميّز مع الفيلسوف الراحل ” مارك سوتيه “Marc Sautet ” ( 1947- 1998)، الذي كان يرغب في إيصال الفكر والنقد الفلسفي إلى عامة الناس، وفي “إنزال الفلسفة من برجها العاجي لتكون في متناول كل من يريد الاهتمام أو الإقبال عنها. ” لأنه يرى “بأننا نعيش عصرا قلقا، يدفع بالناس إلى العزلة والتهميش، وعليه يجب إنشاء فضاء يجمع هؤلاء الناس، تكون فيه الممارسة العفوية للفلسفة وتنزل إلى المقهى والمدينة والشارع” ، أي تبقى وفية حسب مارك سوتيه، إلى ما كانت عليه منذ أكثر من ألفين سنة، وعلينا كما يقول “أن نعرف بأننا نعيش حالة أزمة شبيهة بالتي عرفتها الديمقراطية اليونانية”، مما يتوجب علينا أن ننشأ مناخات تتيح الفرصة لكل من يريد المشاركة، سواء بقي ملتزما بموعد الحضور أم لا، المهم أن تدور المناقشات في جو من الاحترام.
يؤكد صاحب المقهى بأن الكثير من الصداقات تبلورت في هذا المقهى، وحتى أنه تم زواج بعض الرواد مع بعض النساء اللواتي يترددن عن المقهى، “كما أن الكثير منهم يذهبون إلى السينما أو يبرمجون القيام بأنشطة أخرى مثل السينما أو المكتبات”.
أصبحت مقهى الفلسفة بمثابة مؤسسة حقيقية يتردّد عليها ما بين 80 و 100 شخص في كل مرة، حتى أنها حققت موقعا باسمها حيث نجد ملخصات هذه اللقاءات والنشاطات .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC