قرأت بحثين نشرا في مجلة أثير مؤخرا، فالبحث الأول تحدث كاتبه عن مسألة تتعلق بمسألة الحقوق الفكرية وتزييف بعض الحقائق، وأدخل مع السرد بعض التحليلات التأريخية من وجهة نظره، فكانت ردة الفعل كحال أي عمل فكري، بين مؤيد ومعارض، أو مؤيد في جانب ومعارض في جانب، فجاءت مقالة تعترض بعض ما ذكر في الطرح الأول، وتدور فكرة المقالة النقدية حول مسألة حياد الكاتب، حيث إنها اتهمت الكاتب بأنه لم يكن حيادياً في نقده وأنه حاول أن يحمل الكلام من غير أدلة على محمل يسيء إلى بعض المذاهب والتوجهات، وقد أعجبني طرح الناقد في مجمله، ولكن تسربت إشكالية ووقع صاحب المقالة الناقدة في نفس المشكلة المنتقدة، وهذه الإشكالية التي يعاني منها الباحث العربي للأسف، وقد بينتها في بحث مختصر من أصل بحث مطول تم نشره في هذه المجلة الواعية الواعدة، وهو بحث ” الحيادية في نقد التراث العربي بين النظرية والتطبيق” ، ولكن للأسف رغم ما ننتجه من أبحاث كأمة لا نسعى جادين في التطبيق، فما فائدة النظرية إذا لم تكن حاضرة في واقعنا التطبيقي؟!، وهذه مشكلة تواجهنا كأمة عربية إسلامية، وهي تعكس واقع شخصية الأمة التي باتت غارقة في “الكلام” وابتعدت عن “التطبيق”.
ولعل أكبر مشكلة تعيق الباحث العربي عن الحيادية الشاملة هي الدوافع الأيدلوجية التي بداخله، ولا أعني بكلامي هذا أنه لا يوجد حيادي منتمي، لا ضير في الإنتماء ولكن لابد أن يكون ببراهين، وإن كنت أرى أن الإنتماء لأي فكرة يجعلك في إطارها سواء كانت صحيحة أم خاطئة، فلا يستقيم أن يكون منتمياً للإسلام ويدور خارج إطاره، ولك أن تقيس ما دون ذلك عليه .
وعودة إلى المقالة التي انتقدت البحث الأول فقد ذكر باحثها كلاماً جميلاً ولكنه وقع في إشكالية ما انتقده على غيره، وسأسرد الفقرة من مقالته، فقد قال :
“وماذا عسى أن يقول الكاتب في قصة الغرانيق أيضا وقد رويت في كتب السنن والصحاح من قبل غير الإباضية، في الوقت الذي قدم الإباضية رفضا مطلقا لهذه الرواية كونها غير مقبولة في رسالة التوحيد القائمة على التنزيه وعصمة الأنبياء، تقول الرواية بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوا صدرا من سورة النجم وعندما وصل إلى قوله تعالى ” أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى” ألقى الشيطان على لسانه هذه العبارة ” تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ” عندها سجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد معه المشركون والإنس والجن ، وتعد هذه الرواية مقبولة عند عدد غير قليل من العلماء، من غير حاجة إلى تسميتهم، لكنهم قطعا لم يكونوا إباضية وليسوا أمازيغ، غير أن ذلك لا يعني أبدا أنهم يخفون وثنية دفينة أو أنهم يضعون قداسة للأصنام، ولا يمكن لكاتب يحترم نفسه أن يقول هذا. والباحث العلمي المنصف سيلتمس عذرا لهؤلاء العلماء، ولن يحار في إيجاد المخرج المنهجي في قبولهم لها”
وقبل أن أشير للخطأ الذي وقع فيه أخونا الباحث، فإنني أود أن أنبه على جزئيتين :
الأولى : لا أدري ما سبب المناسبة في ذكر هذه القصة والفقرة هاهنا؟، فالكلام كان يدور عن الإباضية الأمازيغ وما ذكره الباحث الأول عنهم وعن المشارقة منهم في ما بعد، ولكنه في تصوري أن هذه أيضاً مشكلة تواجه الباحث العربي في كتاباته النقدية فدائما ما نجعل الطرف المنتقد(بفتح القاف) في جهة مقابلة كخصم، أو كما يعبر عنها بعض الكتّاب بعبارة “أنا” و “الآخر” ، وحقيقة فمثل هذا الخطاب لا يرتقي بالامة أبدا فهو أشبه بصراع فكري ومعارك أقلام، إذ أن العمل النقدي الهادف لابد أن يقوم على مبدأ التراكم العلمي، أي أن الدراسة اللاحقة تكمل السابقة لا أن تهدمها أو أن تأتي بمشكلة مثلها، فحينها يكون الكلام النقدي أشبه بقول الشاعر: كاننا والماء من حولنا … قوم جلوس حولهم ماء
أو كما قيل: من فسر بعد الجهد الماء بالماء!!
الثانية: أن آراء المذاهب تؤخذ من علماء المذهب أو التوجه ومن المنظريين لا من واقع جمهور الناس، فقد أخطأ في نظري الباحث الأول حين نسب بعض المعتقدات لفئة ما وربطها بالتوجه والمذهب، فنحن من واقعنا المعاصر نرى من ينتسب لدين معين أو مذهب ما وفي نفس الوقت تجده يمارس عادات وأمور لا يرتضيها العقل البشري بأي حال من الاحوال فضلا عن قبولها أو نسبتها للمذاهب والأديان التي غالبا ما تقوم على مبدأ الخلقية أو الأخلاق.
وبعد أن وضعنا بعض الخطوط العريضة حول بعض الإشكالات التي وقعت في البحث والمقالة المنتقدة (بكسر القاف)
فلابد أن أوضح الخطأ الذي وقع في المقالة النقدية، وهي أشبه بمثال حي وتطبيقي لدراستي السابقة التي ذكرتها آنفاً،
فقد ذكر الباحث كما مر علينا أن قصة الغرانيق ذكرت في كتب السنن والصحاح، وسرد القصة بتلك الصورة موهماً القارىء بأن هذه القصة صحيحة في مصادر غير “السادة الإباضية”، وأكد هذا المعنى بقوله : ” أن هذه الرواية مقبولة عند عدد غير قليل من غير الإباضية” .
ونحن هنا ليس بصدد نقد المذاهب فلا يخلو مذهب من مذاهب المسلمين وغيرهم من الصواب والخطأ والآراء تعرض كلها في الميزان النقدي ويبين صحيحها من سقيمها، ولكنني أردت أن أبين هذه الجزئية وهي أن الباحث – صاحب المقالة النقدية – لعله خفى عليه طريقة التعامل مع الروايات واستخراجها من مظانها كما هي عند أهل الفن والاصطلاح في هذا العلم الذي انفردت به أمة الإسلام، ولا أريد أن أتعمق في الكلام عن هذا العلم الجليل الذي حفظ لنا الميراث العربي الإسلامي وجعله بين أيدينا ولكنني أردت أن أنبه عن خطأ يقع فيه الكثير من الباحثين فيتحصل من ذلك الخطأ نسبة الأقوال إلى غير أصحابها وهذا ما حصل في الدراستين السابقتين فقد وقع الباحث الأول في نسبة بعض الأفكار لمذهب، فحاول الباحث الثاني أن يذب عن المذهب ما نسب له – وهذا حق مشروع لأي باحث- ولكنه وقع في نفس الإشكال ونسب كلاما لغير أصحابه، لعدم معرفته بالتعامل مع الطريقة المتعارف عليها عند أصحاب هذا العلم، ولا أريد أن أتهمه في حياديته وإن كان ذكره لهذه الحادثة ونسبتها بطريقة تقابلية توقعه في دائرة الإنحياز الأيدلوجي، فالباحث عن الحقيقة لا يدور حول مفهوم ” نحن” و ” أنتم أو الآخر” بل عليه ببرهنة نظريته بالأدلة ونقد ما يظن أنه غير صواب بالأدلة، ويخرج بنتائجه الخاصة، ويترك الحكم لمن بعده.
رغم ذلك فإني أحسن الظن في الناقد دائما وأرى أنه افتقر للتخصصية في هذا العلم، فقد ذكر أن القصة رويت في كتب السنن، فما أدري ما يعنيه بالسنن؟
فإن كان يعني الكتب التي روت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل كتب الرواية في علم الحديث تأخذ هذا المعنى، فهي تشمل : كتب السنن والمسانيد والصحاح والضعاف وغيرها.
وإن كان يعني –أي الباحث الناقد- كتب السنن كما هو مصطلح به عن أهل الحديث: ” وهي الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية” وهذا أقرب ما يفهم من كلامه لتفريقه بين السنن والصحاح في كلامه مما يشير أنه عنى بكتب السنن ما اصطلح عليه أهل الفن : كسنن أبي داود وسنن ابن ماجة وغيرها.
ومن المعلوم أن كتب السنن فيها ما هو صحيح وما هو ضعيف من الأحاديث وهذا لا يخفى على طالب علم الحديث، فعلم الحديث له علم يتوصل إليه يسمى بأصول الحديث أو علم مصطلح الحديث أو علم رواية الحديث، كما للفقه علم أصول الفقه فلا يفهم إلا به، وكذلك علم رواية الحديث لابد أن يعلم من يشتغل في هذا العلم بأصول علم الحديث ومعرفة ألفاظ هذا الفن وما اصطلح عليه أهله، وطرق التعامل مع مصنفاته وما احتوته.
ووجه الخطأ الذي وقع فيه الباحث الناقد هو أنه نسب الرواية للسنن والصحاح، علماً أن القصة التي ذكرها لاتصح في أي كتاب من كتب الحديث مطلقاً وقد فند العلماء هذه القصة وأسانيدها وصنفت فيها مصنفات حول تخريجها وبيان بطلانها، ويفهم في بعض الأحيان أن الرواية إذا رويت بسندها إلى النبي بأنها صحيحة، وهذا الكلام لم يقل به أي عالم من علماء الحديث، بل أنهم ينظرون في الإسناد ورجاله إذا كانوا ثقات، فقبول الرواية لا بد أن تتوفر فيه شروط ومن أهمها سلامة الإسناد والمتن من الشذوذ والعلة، والكلام حول شروط قبول رواية الأحاديث يطول ولا يمكن بسطه في هذه الأوراق، ولكن ما يعنينا أنه ليست كل رواية تؤخذ من كتب السنن صحيحة بل حتى لو ادعى مصنف الكتاب بأنها صحيحة لأن بعض العلماء عرف بالتساهل في مسألة التصحيح، وهذه المسألة معروفة في كتب المصطلح، ولولا ذلك لما وجدت كتب التخريج وهي كثيرة : ككتاب مصباح الزجاجة في تخريج سنن أبن ماجة.
أما كتب الصحاح وهي الكتب التي اشترط مؤلفوها أن لا يدخلوا فيها إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي متفاوته في ذلك فبعضها إلتزم بذلك “كالبخاري ومسلم” وبعضهم تساهل في بعض الروايات “كإبن حبان” وقد تتبع العماء كتب الصحاح وعنوا بدراستها وتمحيص رواياتها وميزوا الصحيح من الضعيف فيها فما وجد كتاب إلتزم مؤلفه بالصحيح كالبخاري ومسلم، والأخذ منهما هو ما يعنيه أكثر المعاصرين بكتب الصحيح، فصحة هاذين الكتابين ليست نابعة من كون أن البخاري ومسلم إلتزما بالصحيح فقط، بل لأن العلماء تعاقبوا على دراستهما طيلة اثني عشر قرناً بين محقق ومنقح وشارح لهما فهو مشروع نتائجة من جهود جماعية ومتراكمة.
كما أن هنالك إشكالية يقع فيها الكثير من الباحثين، وهي الزيادة عن أصل رواية الحديث، فهذه معضلة في أفهام غير المتخصصين، فقد تأتي رواية بألفاظ محدودة في الصحاح وتأتي في كتب غير الصحيح زيادات على القصة فتنسب القصة مع زياداتها لكتب الصحاح، وقد تكون الزيادة ضعيفة أو شاذة، فإذا كان علماء الحديث في الراجح عندهم أن زيادة الثقات إذا جاءت قرينة على عدم صحتها تضعف، فكيف بزيادة الضعفاء؟!، ومن هاهنا يأتي الخلط في الروايات فلابد أن تدرس كل رواية على حده، فلا يعني صحة أصل القصة أن التتمة صحيحة، فقد نسمع قصة من رجل ثقة ضابط لما يروي ويأتي آخر غير ثقة فيضيف للقصة تفاصيل غير صحيحة، بل قد يروي الثقة الضابط قصة فيأتي ثقة آخر غير ضابط -كأن يكون سيء الحفظ أو الفهم- فينقل لنا القصة بخلاف حقيقتها وهذا شيء معلوم عند العقلاء، وهو معروف عند المحدثين في كتبهم، فهذه لمحة سريعة حول موضوع الرواية وأما تفاصيل هذا العلم فستجده في كتب أهل هذا الفن، وعلى جميع الاحوال فإن رواية قصة الغرانيق بتتمتها لا تصح أبدا عند علماء الحديث، ومن ادعى ذلك وقال بثبوتها فليأت بسند صحيح متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إثبات صحة الخبر-أي خبر الغرانيق- أشد من خرط القتاد كما قال أحد علماء الحديث.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC