باريس ومقاهيها في سناجب الشرق الأقصى لسيف الرحبي
الطيب ولد العروسي – باريس
المبدع سيف الرحبي غنيّ عن التعريف ليس في عمان فقط، و إنّما في العالم العربي بأكمله . فهو الشاعر و الأديب الكبير المتميّز بأفق تفكيره الرحب وحسّه الإنساني العميق التوّاق إلى تخطّي المعابر الثقافيّة وتجاوزها إلى كونيّة حالمة و أكثر إنسانيّة ممّا هي عليه، كما تعبّر عن ذلك دواوين شعره الكثيرة ومقالاته الادبيّة النثريّة المتعدّدة و المنشورة والمترجم بعضها إلى لغات أجنبيّة مختلفة. لن أقدّم في هذا المقال تقديما تقليديّا كتابه ” سناجب الشرق الأقصى : مقاهي باريس ” الصادر في بيروت، عن دار الانتشار العربي، هذا العام ، و إنّما أودّ أن الفت انتباه القرّاء خاصة المولعين بباريس وما كُتب عنها من العرب بدء بالطهطاوي في “تخليص الإبريز في تلخيص باريس ” في القرن التاسع عشر و مرورا بسهيل ادريس في ” الحيّ اللّاتيني ” في القرن الماضي، ومحمد الجويلي في الحوار الذي أجريته معه ونُشر في كتاب بالقاهرة بعنوان “ترحال الكلام في أربعين عاما وعام ” في مستهلّ هذا القرن إلى أنّ ما كتبه الرحبي في الفصل الذي عنونه ب ” غرفة في ( باريس) تطلّ على القطب الجنوبي ” هو على خلاف هؤلاء، هو عبارة عن لوحة فنّية تشكيليّة سرياليّة رسمها الكاتب في مزيج من الكلمات و الأحاسيس و التأمّلات التي تخرق العادة، و تخرج عن المألوف، فيما كُتب عن عاصمة الأنوار أو مدينة الجنّ و الملائكة كما وصفها طه حسين في وصفه المشهور. ينظر الرحبي إلى باريس بعيون عمانيّة و يستهلّ كلامه في هذا الفصل عن ” العصفور الدوري العزيز منذ الطفولة …..أيّها المواطن الكونيّ ….إنّني لا اتعب من الثناء عليك أيّها الدوريّ ، فعلى شجرة الفرصاد في بيتنا القديم الضارب في الزمان في اللّيل العماني البهيم “، ولكنّه سرعان ما يتيه في أعماق العاصمة الفرنسيّة يرصد ما تخفيها واجهتها ووجاهتها ، يرصد متشرّدا ” يستلّ سكّينا على زميله حيث لا سقف يؤويهما و لا عائلة في هذا العراء الذي يقطر دما ” قبل أن ينتقل إلى باريس” الأنيقة ببيوت الفنون و المتاحف و الأزياء الراقية ” صارخا في تأمّل الفلاسفة الشعراء الواقفين على بؤس المنزلة الإنسانيّة في تناقضاتها الصارخة المدمّرة ” الحروب في كلّ مخدع و مكان ” .
يشدّ المشهد الباريسي بريشة سيف الرحبي انتباهك بتناقضاته الصارخة التي تقف بالمرء على حافة الجنون المبدع السريالي، كما نظّر له رائد السرياليّة الفرنسي بروتون . يتجوّل بك الرحبي في باريس عبر أزقّة الذاكرة عابرا لجسور باريس بما في ذلك المسمّى بجسر الفنون وحذو أكاديمية الفنون ثم الأكاديميّة الفرنسيّة ( مجمع الخالدين ). ولكنّ هذه المعالم لا تنسيه المعّْلم الخالد : الإنسان ، المفكّر الفنّان عندما يرصد تمثالا أرضيّا متوسط الحجم ل( فولتير )” ينتصب في خميلة جانبيّة من غير قاعدة ترفعه إلى الأعلى ، أخا رفيقا للعشب و الماء” على حدّ قوله ثمّ يستحضر قولته الطريفة و العميقة ” كلّما ازددت معرفة بالناس ازداد حبّي لكلبي ” . المكان هو الإنسان هذه حكمة قديمة ومقهى لا فونتين لا يعني شيء بالنسبة إلى الرحبي دون أصدقائه الكتاب العرب الذين دأب على الالتقاء بهم فيه منذ أكثر من ثلاثين عاما : سمير قصير الذي ذهب ضحيّة الاغتيالات السياسيّة في لبنان، وعن صديق عراقي لم يلتقه منذ سنوات ولا يذكره بالإسم الساخط على أخته التي تزوّجت بشاب من غير طائفتها . هكذا يفكّر هذا العراقي الذي يعيش منذ عقود في فرنسا ويحمل جنسيتها اللّاهج بأسماء روسو وبودلير كما يقول الرحبي في نبرة الساخط على ما آل إليه الوضع العربيّ من بؤس وتخلّف .
خلاصة الأمر، باريس في كتاب الرحبي الأخير تبدو بملامح عربيّة غير معهودة . هي” المكان و اللأمكان” كما علّق د. محمد الجويلي الانتروبولوجي التونسي الذي يدرّس المكان و اللّامكان انتروبولوجيّا في ماجستير الدرجة الثانية بكلية الآداب في تونس العاصمة . الجويلي يعتبر أنّ ما كتبه الرحبي حول باريس هو أمتع النصوص العربيّة و أعمقها التي قرأها حول هذه المدينة المميزة، و ينوي برمجة الكتاب لطلبته في السنة الجامعيّة القادمة .