فكرت في البحث عن بقايا المعتزلة باليمن شمالاً، وعُمان، على أن أُصولهم اختلطت بالزيدية والإباضية، فالفرقتان ومِن القدم أخذتا في الفقه الكثير مِن فروع المذهب الحنفي. لا أخفي إعجابي بالمعتزلة، في الفكر لا السياسة، وبأبي حنيفة سعةً في الفقه، وهذا بدأ معي مِن قبل نحو الثلاثين عامًا. حاولت تحقيق هذه الفكرة في دراسة خاصة، وأن يكون الجزء الأكبر منها ميدانيًّا، لكن الفرصة لم تأت بعد، وتأجل التنفيذ ولم يلغَ.
تلك كانت أولى تطلعاتي لزيارة بلاد عُمان، التي قرأت عنها كثيرًا، وعلى وجه الخصوص فيما أبحث عنه في التاريخ الإسلامي. تلك بلاد وقفت على مشارف سفوح جبالها وسواحلها خيول والي العِراق آنذاك الحجاج بن يوسف الثَّقفي (ت 95 هـ)، ثم محاولة الخليفة هارون الرَّشيد (ت 193 هـ)، فاكتفي بأخذ الخراج منها وتركها لأهلها.
جاءت الفرصة بزيارة ليوم أو يومين لكنها امتدت إلى عشرة أيام، ليست ضمن مهرجان ثقافي ولا ندوة ولا نشاط ما، إنما وجدت نفسي قريبًا منها فدخلتها، لذا تفرغت لرؤية أغلب مواقعها، بمساعدة صديق مِن أهلها، مِن دون أن أبحث عن بقايا المعتزلة فيها، فرؤية بلاد شغلت التاريخ وحُكي عنها الكثير لا بد أن تكون المطلب الأول.
أول ما يلفت النَّظر بعد الخروج مِن مطار مسقط بياض البناء فيها، وتبدو كأنها قطعة مِن ضياء، فهذا البياض يعكس الضوء ويختلط بزرقة البحر، وكنت أحسبُ أن البياض رغبة مِن صاحب هذا المنزل أو تلك العمارة، لكن بعد السؤال اتضح أنه مِن قرارات بلديتها، أن تكون على لون واحد، واختاروا البياض لها، وهناك مدن عديدة اعتمدت لونًا واحدًا كمراكش مثلاً اعتمدت اللُّون الأحمر الفاتح، ويظهر هذا على حيطانها.
يحتاج اللون الأبيض عادة إلى النَّظافة، فهو اللَّون الذي لا يخفي أثر التلوث والأوساخ، وبالفعل تجدها مدينة نظيفة جدًا، ولا أبالغ إذا قلت قد لا تجد عِقب “سيكارة” في الطرقات وعلى الأرصفة، كذلك للبياض دور بتلطيف الطقس الحار، فهو لا يمتص أشعة الشمس الحارقة في موسم الصَّيف، هذا ما تعلمناه من درس الفيزياء في المدارس.
احتفظت مسقط بمستوى العمائر الواطئة ربما تواضعًا للبحر، وعدم الرغبة بمنافسة الجبل في علوه، فهي مدينة محصورة بين البحر والجبل. ناهيك عن العمائر المرتفعة تخفي حاراتها وأسواقها القديمة، ومساجدها ذات القباب الجميلة بألوانها، ويبدو أنه قرار البلدية أيضًا في عدم تشييد العمائر الشَّاهقة، فتجدها محافظة على التوازن بين فنادق معاصرة مع طراز عُماني له تاريخ بالمكان.
تمتد مسقط طولاً على ساحل بحر عُمان، هناك طريق يمتد على طول ساحلها يسميه البعض طريق العشاق. تجد النَّاس، نساء ورجالاً وأطفالاً، يتجولون فيه بعد الغروب، فالمدنية آمنة جدًا، وقوانينها المحلية لا تجيز التدخل في شؤون النَّاس، فلا تستغرب إذا رأيت امرأةً تسير على الشاطئ بمفردها، لغرض الترفيه والرياضة. صحيح هذا موجود في عدة دول مِن المنطقة، لكن احتفاظ مسقط بتقاليدها الاجتماعية والدينية مع هذا الانفتاح هو وجه الاستغراب، إضافة إلى عواصم عديدة أيضًا غاب عنها هذا المشهد، والأمر يعود إلى الإحساس بالأمن والأمان، مِن متطفلين باسم العادات والتَّقاليد أو باسم الدِّين.
قيل لي عليك بزيارة دار الأوبرا، وحسبتُ، قبل رؤيتها، أنها مقتحمة على المجتمع العُماني، أو أنها نبتة برية وسط مدينة مسقط؛ فوجدتها دارَ فنون واسعة إلى حد الدَّهشة، ومتقيدة بالماضي المعماري وتلطيفه بالحاضر. لم تكن نافرة عن المدينة، فمِن تقاليدها أن العُماني لا يجوز له الدخول إلى الدار، لحضور الحفلات الموسيقية والفنية، مِن دون اعتمار الزي الذي يطلقون عليه اسم “الزَّي الوطني”، وهو الدّشداشة والعِمامة (المصر حسب تسميتها بعُمان)، وشروط أُخر تتعلق باحترام الفن وأهله، مثل التقيد الصارم بالوقت وعدم التصوير الخاص، وعدم قبول أي مظهر لا يتفق مع أناقة ورقة الفنون.
عدت هذه الدار واحدة من مفردات النهضة العُمانية التي انطلقت العام 1970، فشُرع ببنائها العام 2007 بتصاميم معمارية فاخرة، وافتتحت العام 2011. أهم نتاج هذه الأوبرا صارت مقرًّا للفرقة السمفونية العُمانية، وعدد العازفين فيها، مِن الشباب والشَّابات العُمانيين، نحو مئة وخمسين عازفةً وعازفًا، بُعثوا لدراسة الموسيقى في العواصم.
أقول سيجري الحديث عن هذا الصرح بعد قرون مثلما نتحدث عن غرناطة وانفتاحها على الفنون والآداب قديمًا. كذلك مثلما نتحدث عن المدرسة المستنصرية ببغداد، وقد افتتحها الخليفة العباسي، ما قبل الأخير، المستنصر بالله (السنة 631 هـ)، وكان يوم افتتاحها مشهودًا وسط بغداد (الحوادث النافعة)، وما زالت قائمة كعمارة، أثرت فيها قرون من الخراب، حتى تحولت إلى إسطبل لحمير الكمارك في نهاية العهد العثماني .
كنتُ أعلم أن مسجد مسقط الكبير، واسمه “جامع السلطان قابوس الأكبر” قد صممه المعمار العِراقي محمد مكية، فحرصتُ على زيارته لكثرة ما تحدث لي عنه مصممه. حرص، وهي رغبة السَّلطنة العُمانية، في أن يكون ذا طابع عُماني، وأين ما تتلفت في جدرانه وسقوفه تجد هذا الطراز بائنًا. سألت إحدى المشرفات في المسجد عن مصممه، مع أني أعرفه تمتم المعرفة، فقالت مهندس يُعرف باسم محمد صالح مكيَّة، حينها شعرت بالفخر بعلاقتي به، فقلت لها إنه صديقي.
نظرت في أروقة المسجد الخارجية، وهو يمتد على مساحة واسعة وسط مسقط، أبحث عن الأمكنة التي تأوي الطيور، وهي تحوم حول أشجار حدائقه، فرأيتها تتخذ مِن فسح داخل الأروقة. فالمعمار مكية كان يحرص في تصاميم المساجد على حق الطير في الإيواء. وتجد الطُّيور كثيرة بمسقط؛ والسبب أنها محمية بقرار سُلطاني صارم، لا تُصاد مهما كان نوعها، ومِن كان مَن كان.
لا يبخل العماني في مبادرة السَّلام على الغرباء، ولا بالابتسام الذي يريح نفس الغريب، وإذا مررت بسوق أو جماعة قالوا: تفضل هذا تمر وقهوة. عمائمهم ظلت على رؤوسهم عصية على تبدل أغطية الرؤوس، وهي ليست بلون واحد ولا طراز واحد، أما الابتسامة فواحدة. أهم ما يُريح بهذه البلاد، بعد الابتسامة، قتلهم للشعور الطَّائفي، فكلَّ شيء عُماني وكفى، سُنة وإباضية وشيعة يُصلون في مسجد واحد، فإرسال اليدين أو ضمهما لا يعني شيئًا، وأدخلتُ نفسي بحرج عندما استفسرتُ عن هذه الظَّاهرة، رغبة باليقين لا أكثر، فلا يريدون التحدث بها سلبًا أو إيجابًا وكأنها غير موجودة. مِن ذلك حضرت اُمسية شعرية، وسجلت مما قرأ الشاعر النَّبطي حمود بن وهقة اليحيائي: “عقولنا ثوب التطرف رمنّه/ نعانق المسجد بعد صوت الأذان/ ونسجد إباضية وشيعة وسُنة”.
ختاماً أحسب أن البياض والعِمامة غير الدِّينية والابتسامة لها تأثيرها في دحر الطَّائفية.
د. رشيد الخيّون
باحث عراقي مقيم في لندن متخصص في الفلسفة الإسلامية
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC