إن في القرآن الكريم والسنة النبوية كنوز علمية ومعرفية غفل عنها المسلمون، فالإعجاز العلمي واللغوي اللذين احتواهما هذان المصدران كثير، ولكن نحتاج لإمعان النظر فيهما والتدبر والقراءة فيهما قراءةً عصرية تواكب واقعنا العلمي، فكيف تصبح الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان إذا لم تحتوِ متغيرات كل عصر؟! ، أما ما جاء في تفسيرات المتقدمين لنصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بالمتغيرات فعلينا الاستفادة منه بحدود ما يساعدنا لفهمنا للنصوص فهماً يثبت صلاحية وديمومة هذه الشريعة ومرونتها، فلا يُتصور أن الإسلام انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو أن التشريع انحصر بالحوادث والنوازل التي كانت في عصره، لأن ذلك يتنافى مع مبدأ صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، لذا فإن الشريعة أحكمت النصوص التي أرادت لها الأبدية؛ لعلم الشارع الحكيم أن هذه الأحكام لا تتغير بزمان ولا مكان، وتركت الكثير من النصوص على عمومها أو دون تقييدها فتركتها للأعراف أو الأزمنة المختلفة ولاجتهادات المجتهدين، ولقد وهب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من المعجزات المؤيدات له كما أنه وهبه حسن البيان وجوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلمات القليلة ولكنها تحمل في طياتها معان ودلالات عميقة، بل وأحياناً مقاصد متعددة ومواضيع متنوعة، ومن جملة ما تكلم به صلى الله عليه وسلم ما وراه البخاري في صحيحه من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:
(وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان فأتاني آتٍ فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: إني محتاج وعلي عيال وبي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله فقال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، قال: دعني فإني محتاجٌ وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة ً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هيه؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو ) حتى ختم الآية فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) البقرة، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح وكان أحرص شيءٍ على الخير فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة قال لا قال ذاك الشيطان[1].
فقد تضمن الحديث السابق على أهم مناهج البحث العلمي، فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى النظر في الكلام وتمحيصه دون الالتفات إلى قائله، مع العلم أن الموضوع الذي صدقّه النبي صلى الله عليه وسلم فيه موضوع تشريعي فهو دائر ضمن الأذكار وهو أمر تعبدي، فكيف إذا ما كان الموضوع دنيوي وليس لها علاقة بأمور العبادات؟!
وهذا المنهج النبوي الذي يعلمنا مناهج البحث وطرق الاستدلال والتفكير له أصل في كتاب الله عز وجل، فقد قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)[2]. وفي قراءة (فتثبتوا) فالتبين والتثبت لهما دلالة عميقة وهذا أمر رباني وجب على المسلم الأخذ به وهو التثبت، والقاعدة تقول : (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)[3]. فكل وسيلة توصلنا إلى التثبت من صحة الكلام وتوصلنا إلى الحقيقة لزم الأخذ بها شرعاً، ومن بلاغة القرءان وفصاحته، فقد قال جل وعلا: (فاسق) ولم يقل كافر إذ أن الكفر والفسق بينهما عموم وخصوص فكل كافر فاسق وليس العكس، فبهذا المعنى يدخل في عموم هذا القول الكفار، وبدلالة الأولى أن يدخل الفساق من المسلمين فضلا عن العدول منهم، لذلك كان فهم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية جلي كما في الحديث السابق.
كما أن الحديث ينقل الواقع التطبيقي لطرق البحث عن الحقيقة فللحديث نظائر تبين معانيه العميقة، فقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :
(إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)[4].
فكلمة التحري هذه تفيد كل طرق التحري المادية وغير المادية، سواء عن طريق التجربة أم عن طريق المقارنات أو العرض على المنطق الصحيح السليم، فالطرق المؤدية إلى الحقيقة مطلوبة في الشرع الحكيم لأن الحق أو الحقيقة من الأمور التي أرادها الشارع الحكيم في جميع الأمور، وهو معلوم عند من له أدنى استقراء لنصوص الوحيين، لذلك فإن الشريعة تأمر بالتحري من صحة الكلام وخطأه، وهذا الأمر نسبي فإن البشر ليسوا على حد سواء في التفكير والعقليات، لذلك وضع علماء الشريعة أصولا لمن أراد أن يتثبت من صحة الأحاديث وخطأها، كما وضعوا أصولا لمن أراد أن يتثبت من صحة الاستدلال وخطأه، علماً أن هذه الأصول لم تكن موجودة في الصدر الأول من الإسلام لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين ومع ذلك فإن العلماء أسسوا هذه الأصول، وأوجبوا على من أراد أن يتصدر للعلم الشرعي أن يتسلح بها، وقد عللوا الحاجة إلى هذه العلوم أن السليقة تبدلت سواء في العربية أو في الأفهام وذلك فيما يتعلق بدراسة أصول العربية ودلالاتها، كما أن الأخلاق والأمانة العلمية تبدلت فوجبت الحاجة لعلوم أصول الحديث وعلم الرجال خاصة، لمعرفة ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما لم يصح منه، ومع ذلك فقد أغفل جمع غفير من جمهور المسلمين عن العلوم العقلية أو العلوم التي تساعد العقل على التميز بين الحق والباطل و الصواب والخطأ من الأفكار، ولا أدري لماذا لم تعامل هذه العلوم كتلك السابقة علماً أن كلها علوم حادثة، كما أن الجميع يوصل إلى نفس النتيجة المطلوبة وهي الحقيقة، بل أن العلماء جعلوا لتلك العلوم صبغة شرعية مع العلم على عدم وجود نصوص جزئية صحيحة صريحة تحث على ذلك، فضلاً عن الأمر بتعلم تلك العلوم، وأغرب من ذلك أنهم حاربوا علم المنطق أيما محاربة وذلك لأن طائفة من المخالفين في العقائد يستخدمون هذا العلم، علماً أن هذه العلوم العقلية أصبحت ذات ارتباط وثيق بمباحث أصول الشريعة الإسلامية، لا سيما علم أصول الفقه والتقسيمات المنطقية في كتب الفقه والعقائد والحديث وغيرها، وهذه نتيجة طبيعية لأن هذه القواعد موجودة في العقول ولا يستغني الإنسان عنها، وكل ما تغير في الأمر هو أن هذه العلوم كتبت بشكل نظري ليتعلمها من فقدها من تصوره وعقله، كما دونت أصول العربية ومباحث أصول الفقه ليتعلمها من تغيرت سليقته أو من لا يتقنها أصلا لكون لغته الأم غير العربية وما أشبه ذلك، علما أنها كانت حاضرة في أذهان الصحابة ولم يتعلموها من كتب نظرية، بل أنها لم تكن مدونة أصلا، فهم يفهمونها بالسليقة، فلا أعلم ما سبب هذا التفريق بين العلوم في التعامل الشرعي، بل أننا نحتاج لهذه العلوم حاجة شديدة لاختلاط المفاهيم، وتداخل الثقافات، وفساد الذمم، وغياب الأمانة العلمية، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الانتكاسة الفطرية التي ستحدث، فقد قال صلى الله عليه وسلم :
سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة!![5].
نعم هي هذه الحقيقة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، تنقلب فيها موازين الأمور، ويصبح المنطق المعكوس هو الحقيقة السائدة بين الناس، وقد جاء هذا الإخبار في معرض الذم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها سنوات (خداعات)، و(الخدع) في اللغة : هو إظهار خلاف ما تخفيه[6]، فهي خلاف الحقيقة وهو نوع من الغش الذي يرفضه الدين عموماً، بل وأكد الذم النبوي لهذه الظواهر الاجتماعية بقوله صلى الله عليه وسلم: وينطق الرويبضة، قيل : وما هو الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة!!
فهو منكر في الشرع الإسلامي، لذا وجب تغييره وتصحيح المسار، ومعرفة ذلك لابد أن تكون بميزان توزن به الأمور، وهذا ما جاء في الحديث الذي نحن بصدد دراسته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع ما قاله الشيطان بأسلوب منهجي يجهله أكثر أهل القبلة، فقد قال : صدقك-أي فيما قاله- وهو كذوب، والكذوب صيغة مبالغة في الكذب، أي أن ديدنه الكذب، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق ما قاله، بل أن هذا الشيء له نظائر في السنة، وهو تصديق القول وإن دلت إشارات على أن الشخص غير صادق، وذلك ما روي عن أسامة بن زيد قال : (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ )[7].
فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدوافع الداخلية أو التوجه الإيديولوجي للقائل، ولم يجعل صحة الكلام من ضعفه على حسب حال القائل، بل أنه نظر للقول ووزنه بميزان العدل والإنصاف ولو كان ذلك على حساب أحب الناس إليه، فالحق والحقيقة ما يبحث الإنسان عنه دائما، بل أن حادثة الشيطان مع أبي هريرة أبلغ في البيان، لأن الشيطان هو أعصى خلق الله لله، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك!!، كان باستطاعة النبي وهو البليغ المبلغ أن يأتي بجواب يصدق فيه القول دون التصديق المباشر، ولكنه أراد أن يعلم البشرية أن هذا المنهج الفطري الذي غرسه الله في البشر هو منهج رباني، خلقه الله فينا من أجل حكمة، وأن الشريعة لا تخالف العقل الصحيح أبدا، وكيف تخالفه وقد جعلت هذا العقل مناطاً للتكليف، وأن ما يحصل من تعارض مع الشريعة هو ليس من صحيح المعقول بل إنه الخطأ الذي يقع فيه الباحثون، أما صحيح المعقول فلا يخالف الشرع أبدا، لذلك فإن دعوى رفض كتب مناهج البحث والاستدلال أو الكتب التي تعلم الإنسان قواعد التفكير وعصمة الأفكار من الزلل والخطأ ليس له مبرر علمي ولا شرعي، وأما الاستدلال بفتاوى في هذا السياق وترك النصوص الصحيحة الثابتة فهذا منهج مرفوض بإجماع الأمة. والله أعلم.
________________________________
[1]رواه البخاري: صحيح البخاري، الرياض، دار السلام، ط2، 1419هـ-1999م، ص370.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC