خلال هذه الأيام ثار الكثير من (اللغط) حول تغريدة السيد/ بدر البوسعيدي أمين عام وزارة الخارجية، والذي عُرف بدماثة أخلاقه، وتواصله الدائم مع الناس بمختلف الوسائل،والبعض تساءل إن كان السيد ينوي الاعتذار على تغريدته، ولهذا أحببت أن أكتب لكم حول موضوع (ثقافة الاعتذار).
فالاعتذار قيمة حضارية وإسلامية لا يتصف بها إلا أولئك الذين لهم شأن عظيم، وإن كان البعض يعتقد بأن هذه القيمة لا تتناسب ومجتمعنا العربي و(في ثقافتنا الشرقية يبدو الاعتذار معيبا لدى البعض لأنه يمثل لديه حالة من الضعف والانكسار التي لا تليق بالرجل العربي ذي الأنفة والقوة والبطش).
ولكن الشاعر العربي الكبير “النابغة الذبياني” كسر هذه القاعدة الجامدة، وحولها إلى أشلاء متناثرة، وأبدلها بقاعدة الاعتذار المهذب، الذي يسمو بالإنسان إلى أعلى المراتب والدرجات، حيث (أشتهر بالقصائد الإعتذارية الرائعة التي قالها في الملكين،ملك الحيرة وملك غسّان، ومجموعة القصائد التي قالها في هؤلاء الملوك تعتبر من روائع شعره ومن روائع الشعر العربي بشكل عام فقد قيل عن النابغة إنه أشعر الناس).
وقبل ذلك كان لبعض الأنبياء والرسل مواقف في (الإعتذار) أذكر لكم منها موقف سيدنا آدم عليه السلام، حيث اعترف بذنبه لما أخطأ وسارع إلى ذلك، ولم يُحاول تبرير ما وقع فيه من إثم بمخالفة أمر الله، والأكل من الشجرة المحرمة عليه هو وزوجه، لم يُراوغ ، لم يتكبر ، لم ينفِ لكنه جاء معترفاً بخطئه ومُقراً به ” قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ”[الأعراف”:23].
وموسى عليه السلام: أخطأ عندما وكز الرجل بعصاه فقتله، فماذا حدث؟ إنه لم يبرر فعلته، ولم يراوغ لإيجاد المخارج من هذا المأزق ولكنه اعترف ابتداءً أن ما فعله من عمل الشيطان “هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ” ثم قام ليقدم الاعتذار ويطلب العفو والصفح والمغفرة “قال رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”[القصص: 15-16] والسيدة/بلقيس وامرأة العزيز: كلتاهما كانتا تعيشان في بيئة وثنية كافرة، ولكنهما اعترفتا بذنبهما، وتابتا ورجعتا عن خطئهما أما الأولى وهي بلقيس فإنها متى رأت الآيات والبينات تترا على يد نبي الله سليمان حتى قالت”رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”[النمل: 44] وأما الثانية امرأة العزيز التي راوغت، وكادت لتبرير موقفها الصعب، وسلوكها المشين إلا أنها اعترفت في شجاعة نادرة ” قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ”[يوسف:51-52].
فالاعتذار خٌلق اجتماعي جميل يدعو للتعايش، ويمحو ما قد يشوب المعاملات الإنسانية من توتر أو تشاحن نتيجة الاحتكاك المتبادل بين الناس، والاعتذار ينفي عن صاحبه صفة التعالي والكبر، ويمنحه المصداقية والثقة في قلوب الآخرين، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد، ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به، والارتياب في تصرفاته.
الدكتورة/ فاطمة بنت عبدالله.