ثمة مفارقة في إطلاق الرموز بحياتنا، فها نحن نشاهد يوميا صور فريق من تجمعات الحراك السياسي المضطرب في مصر ، يرفعون شعار الأصابع الأربع، موحين إلى انهم تابعين لتجمعات الأخوان المسلمين الذين تجمعوا في الميدان المتاخم لمسجد رابعة العدوية ، فكانت الأصابع الأربعة لاتوحي إلا إلى جامع السيدة رابعة الصوفية البصري. والأمر يقع خلاف معارضيهم المتجمعين في ميدان التحرير، تميزا وفرزا، ودرءا للتصادم الذي لاتحمد عقباه. وهكذا سوف يتخذ هذا الرمز بعد فترة مسارا وأبعادا أخرى،يجعله يصنف ضمن ثوابت الرمزية المحيطة لحياتنا، وربما يصبح يوما مثل رفع شارة حرف(V)، الرامزة للنصر،والتي جاءتنا من سياقات الحرب العالمية الثانية بعدما تداولها السياسي الإنكليزي تشرشل، فأمست من بديهيات الرموز.
وقبل ايام اطلقت النائبة في البرلمان العراقي الدكتورة مها الدوري تصريحا أقحم الدين بالرمز الفني مع السياسة، كونها رصدت نقش النجمة السداسية(نجمة داود) ضمن سياقات الحبكة الزخرفية في ضريح الإمام علي بن ابي طالب(كرم الله وجهه) في النجف. وقد اثار التصريح زوبعة، وأول بحسب الأهواء والآراء، وأتصلت المعنية للتسائل عن منظور الأمر التأريحي، فأفتينا لها بأنه رمز لايمت الصلة لليهود ولا لإسرائيل البته، رغم أنها تداولته في بيرغها بعد التأسيس المريب عام 1947، ولم تكن تلك النجمة مثلما حال النجمة الثمانية أو نجمة سليمان، إلا سياق شكلي متعدد التوظيف الزخرفي والفني، لايمكن أن يرمز لملة أو نحلة.وهذا ما شجعنا إلى سبر اغوار ظاهرة الرموز في حياتنا، وحسبنا ان ما يظهر منها فوق السطح أكثر مما خفى ودغم وجهلت أصوله.
ولابد من الإقرار في ذلك بان الإنسان أوجد رموز لكل حيثية في حياته ، لغرض إدراك محيطه وتسهيل مهامة في العيش، وبذلك حري أن نصنفه “كائن رمزي” ، فاللغة والكتابة والأداء التعبيري والطقوس والدين ،كلها مترعة بعالم الرمز التي يخفى جلها ويكشف قلها. والرمز في حقيقته يعني الإشارة والإيماءة، وهو تبيان لما يوجد من تجانس خفي بين الأشياء و دواخل نفوسنا ويتجسد في التعبير عنها بالأشكال التي ترمز للفكرة أو المعنى المعين . وابسط أنواع الرمزية هي اللغة وهي إشارات صوتية ترمز إلى معان محددة . وحتى التفكير الذي يمثل نظاما معرفيا شاملا للنتاج البشري، فأنه يقوم على استخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية بالتعبير الرمزي ومادته الأساسية المعاني والمفردات والمدركـات ([1]).
ونلتقي الرمزية في الفنون عموما بسبب تضمنها قيماً عاطفية يراد نقلها إلى الآخرين بأمانة فهي متجسدة بوسط مادي في الرسم كخطوط وألوان وفي النحت بالأشكال والهيئات ،وبوسط معنوي في ذات الشعر حينما تصبح منحى وغرض يخدم التعبير عن الأشياء بمدلولاتها اللفظية . أو حتى بغرض (التشبيه Simile ) كما في علم البلاغة أو(السميولوجية أو العلاماتية) المتعلقة بالأغراض (Simiotic).
وأخذ الرمز حيز كبير في تفكير الإنسان وأمسى جزء من إدراكه وتداخل مع روحانيات الأمور وعم في الأديان ،ونجد الصيني كونفيشيوس(عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) يؤكد سطوته بان ( العلامات والرموز هي ما يحكم العالم وليس الكلمات ولا القوانين). وهكذا فأن ليس للأشكال أو الألوان أو حتى الأرقام في كثير من الأحيان بحد ذاتها أي معنى كامن أو نابع عنها ولكنها تكتسب صيغة الرمزية لمعنى ما، فهو إلا اصطلاح يربط الإنسان بها . وتأتى قوة التعبير عن الرمز في الفن من خلال ما يجد الفنان من الأسباب لهذه العلاقة وهذا الربط بين الشكل والمعنى . وثمة تفسيرات شتى لظواهر نفسية وخوارق اللاشعور وتأويلات “باراسيكولوجية” تهاجن بين تلك الأشكال ،لتعلن بالمحصلة متاهة في شؤون البحث، وترسم ملامح توجه جديد للآصرة بين الفن والعلم مع النفس.
ويمكن أن تكون الكتابة التي ظهرت في سومر هي رمزية ريادية في تاريخ الفكر وباكورة لها. وأن الفكر السومري وهو يؤسسانظمتهِ الأولى في تاريخ الإنسانية، كان يَستلم (خطاب) البيئة المعلن بفعلالمحسوسات ، ويؤولها إلى منظومة دلالية في بنيتهِ . وهي بمثابة تقابلات صورية ،مكثفة بأشكال رمزية أو (دوال) علامية . وعلى هذا النحو ، تحولت الظواهر إلى رموزومفاهيم ، هي بمثابة تكثيف لأفكار خطاب التشكيل . وهذا هو التفسير (العقلاني) ،باتجاه خلق موازنة ، بين الإحساس الداخلي (الذات المنفعلة) وعالم التجربة الخارجي)قراءة الموجودات) ، حيث تكون (مُهمّة) التشكيل إدراك هذه الموازنة . ذلك إن صلةالتشابه المادية المنظورة ، قد تمت الاستعاضة عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلةالرمز ، حيث ترتقي (المدلولات) فوق الظاهرة الطبيعية المنفردة . وبنوعٍ من التضايفبين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي.وكأي اختراع ، يبدو في البداية بسيطاً رغم كونهانتصاراً ، ومن ثم يخضع لمفهوم التطور، بفعل تعاظم الخبرة المستندة الى التجريب .حيث أعقبت الكتابة الرمزية مرحلة الكتابة الصورية ، ليتعاظم هرم المعرفة ، فيمرحلتهِ النهائية بالكتابة الصوتية _ المقطعية ، المستندة إلى اصوات المقاطع فيكتابة الكلمات . وهوأعظم نصر فكري في تاريخ المعرفة. ففيالمرحلة الرمزية ، وَجَد الفكر أن صلة (الشبه) المادية المنظورة ، غير كافية لتدوينشتى (الأفعال) المجازية . فاستعاض عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز ، حيثتتجسد قيمة الرمز الجوهرية الروحية ،بالتحول من الفردية نحو التعميم المطلق .([2]).
ولنأخذ من السومريين مثلا رمز الصليب الذي أقترن بالمسيحية تباعا وتحول إلى رمز للإيمان بالمسيح وبالكنيسة وأمسى ثابت تخطيطي في مساقط العمائر ولاسيما الكنائس قبيل عصر النهضة في أوربا، ولم يقتصر المؤمنون على استخدامه داخل الكنائس فحسب، وإنما تحول إلى أداة رئيسية في الفنون، ومجالات أخرى، ووظف في الأعلام والرايات والعسكرية والنياشين مثلما الصليب الحديدي الألماني.وأحصت موسوعة(كينيز) 400 شكل من أشكال الصليب، تتوزع بين ثقافات الشعوب ، من بينها اليوناني والكاثوليكي والروسي ومالطة و القديس بول و المعقوف النازي أو “الزوبعة” ( كما يقول القوميون السوريون في بلاد الشام ) التي كانت ترمز في الحضارات الشرقية القديمة. ويعزوها البعض الى الأصل السنسكريتي الهندي، الذي عنى “الحالة الطيبة”. بيد أن هذا الرمز كان واردا قبل المسيحية ،ووجد عند السومريين ووظف بثلاثة آلاف عام ونيف قبل المسيحية في رمزية الخير و العافية والحظ السعيد،ووجد عند المصريين الذي يحاكي ما هو متداول عند الأمازيغ في شمال أفريقيا اليوم ويعود الى الفي عام ونيف قبل الميلاد . ووجد نقشه على الفخار اليوناني وعملات جزيرة كريت قبل المسيحية بألف عام ،ثم وجد منقوشا على عباءات الهنود الحمر قبل أن تطأتهم سنابك كولومبس والمسيحية . وظهر كذلك في الموزاييك الروماني وعلى جدران معابد الهندوس، وأذرع الصليب المعقوف(الآري) تتجه مع عقارب الساعة، وهذه الأذرع توحي رمزيا إلى الريح والمطر والنار والبرق، وفي اليابان ترمز إلى عمر مديد ومزدهر، أما في الصين فإنها ترمز إلى جهات الأرض الأربع، وتحولت فيما بعد إلى رمز “10 آلاف سنة” وبه يشير الصينيون إلى الأبدية، وأصبح رمز مقدس لدى البوذيين، ولعل التاريخ الفني لهذا الرمز لدى كثير من الشعوب والأديان هو ما دفع بهتلر إلى تحويله لعلم الرايخ الثالث.
ومن الطريف أن النسوة المسنات “المسلمات” في جهات تكريت وشمال بغداد في العراق، مازالن يرسمن شارة الصليب فوق عجين الخبر بعد الفراغ منه تبركا، ولا نعلم أن كان مكوث من أعراف مسيحية أو من عرف سومري راسخ في نفس البيئة بالرغم من تبدل الأديان ورموزها.
وفي نفس السياق نأخذ مثل شعارحرف(V) اللاتيني، الذي أمسى يرمز الى النصر، وتذهب موسوعة كينيز بأنه ظهر في الحرب العالمية الثانية عندما نجحت قوات هتلر في احتلال معظم دول أوربا ومن بينها فرنسا وبلجيكا، ففي 14 كانون الثاني يناير عام 1941 بدأت هيئة الإذاعة البريطانية من لندن B. B.C”” البث على موجة موجهة إلى بلجيكا، ودعت المواطنين إلى رسم الحرف V” ” على الجدران كتعبير عن مقاومة الاحتلال، وفي هذا يقول معد البرنامج (فيكتور دي لافلي): كنا بحاجة إلى شعار يستطيع أن يرسمه المواطنون خلسة تحت جنح الظلام، وبسهولة، يعبرون بواسطته عن مقاومتهم للمحتل، ثم ما لبث الشعار أن انتقل إلى باريس ومنها عم جميع أنحاء فرنسا، ثم تحول بواسطة الإذاعة البريطانية إلى موسيقى، عبر استخدام إشارات مورس “نقطة. نقطة. نقطة. شحطة” . ومن هنا تحولت V” ” إلى شعار ونشيد يمكن عزفه حتى بأبواق السيارات! ، وهو ما أشعل غضب وزير الدعاية الألماني الجنرال غوبلز، فبدأ حملة مضادة أكد فيها عبر خطاب شخصي “أن الحرف V” ” هو الحرف الأول من العبارة الألمانية القديمة “فيكتوريا”، وما انتشار هذا الحرف إلا دليل على تضامن أوربا كلها مع الألمان في مواجهة البلشفية”، ولكنه سرعان ما أنقلب ذلك الرمز بعد أن ثبته على أعلى برج إيفل، ولم يتسنى للنازية توظيفه ، بعدما أصبح رمزي شعبي للنصرة عليهم.
وأقترن الإسلام برمز (الهلال) في الأزمنة المتأخرة وهو لم يكن مقتصرا عليهم ،فقد تداوله العراقيون وجاء في مسلة نيرام سين الأكدي 2300 ق.م ومابعدها، وعّد عند المصريون القدماء رمزا للعافية والازدهار، ورمز الى (ارتميس) آلهة القمر اليونانية المقتبسة من أصول شرقية، ثم أمسى يرمز لديانا الرومانية، التي ظهر على جبهتها وحاجبيها. وفي عام 339 ق.م ، تحول الهلال إلى رمز مقدس لدى أهالي بيزنطة، وتنقل الحكايات إن والد الإسكندر الكبير الملك فيليب المقدوني قرر احتلال بيزنطة (إسطنبول ) عبر حفر نفق تحت بوابتها ليلا ومفاجأة أهلها وهم نيام ولكن الهلال خذلهم، إذ أطل وكشف عنهم فقام أهل بيزنطة بحصارهم ومنعهم من تنفيذ خطتهم. وللاحتفال بنجاتهم جعل البيزنطيون من ديانا إلهتهم ومن الهلال رمزهم. وفي العام 330 م ، قرر الإمبراطور قسطنطين جعل بيزنطة عاصمة لحكمه، وأطلق عليها اسم القسطنطينية، وكرسها للسيدة مريم العذراء، وكان شعارها باعتبارها ملكة الجنة الهلال أيضا.لكن الهلال توقف ألف عام بعد ذلك، في أزمنة الإسلام الأولى وظهر على عين غرة في سياق (الثابت الثقافي) عند السلطان المسلم عثمان الأول حينما أتخذ الهلال رمزا لحكمه، بعد أن شاهد في الحلم كما تقول الحكاية هلالا يمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، وهكذا بدأ في العام 1299 فتوحاته لتحقيق الرؤيا، ونعلم أن صلاح الدين الأيوبي قبلهم بحوالي قرنين كان شعاره الشاهين الذي يرفع على البيارغ. وفي عهد السلطان أورخان (1326 – 1360م) بدأ الهلال يظهر فوق رايات الجنود العثمانيين، ثم فوق القباب والمآذن، وفي عهد محمد الفاتح وبعد أن نجح في فتح القسطنطينية عام 1453م تحول الهلال إلى رمز مزدوج لدى الإمبراطورية العثمانية كما لدى البيزنطيين كما أضيفت إليه النجمة دلالة على الاستقلال والسيادة. وفي عام 1877م، تأسست جمعية الهلال الأحمر في تركيا للإغاثة و توسعت فيما بعد إلى باقي العالم الإسلامي، حتى عند الجمهوريات الإسلامية (السوفييتية سابقا)، كما ظهر الهلال في علم مصر الملكي، واليوم في أعلام كل من تركيا، والجزائر، وجزر القمور وماليزيا، وموريتانيا، وتونس،و باكستان وشمال قبرص([3]).
أما في العمارة فأن الرمزية تأخذ منحى شبه مختلف عن الفنون الأخرى فشكل المبنى هنا لا يتشكل حسب رغبة التعبير عن معان بل حسب حاجة إلى منفعة وحسب مؤثرات وظيفية ومادية واقتصادية ويدخل معها في التأثير و التراث الاجتماعي للعمارة . وبذلك يمكن أن نعدها ليست رمزاً لعاطفة ما بقدر ما هي تعبير عن حقيقته ، والأسباب والمبادئ التي تمخضت عنها الأشكال المعمارية .وبذلك فالرمزية بالعمارة ليست هدفاً و إنما نتيجة ومحصول فعل . حيث نلاحظ مثلا في الرسومات الباقية في آثار بعض الحضارات الدارسة لبعض المناطق الصحراوية في أمريكا الشمالية و البيرو بان خطوطها جاءت على العموم مائلة لترمز فيها للمطر وسيل الماء وتستحث فيه الآلهة أن يهبهم الاستسقاء الذي تداخلت حاجتهم إلية برمزية الخطوط .ويذهب بعض الباحثين الى التفريق بين خطوط البيئات فالزراعية منتجها الفني بخطوط مستقيمة ومضلعة بينما الرعوية الصحراوية وكذلك البحرية مدورة وحلزومية وإنسيابية ([4]).
ويقول بعض العارفين بأن ثمة ثلاثة نماذج كبرى للحضارات بحسب توجهاتها الفنية وهي : حضارات “الصورة” (الحضارة الأوروبية وامتداداتها في أمريكا الشمالية والجنوبية), والحضارات “الرمزية” مثل الحضارة الإسلامية , وكذلك الحضارات الشرقية كالهندية والصينية, وحضارات الإيقاع كالحضارة الإفريقية التي تتمتع بالأسطوريات والتصورات عن أصل العالم التي لا تخلو عن عبقرية تشكيلية, وهو ما ألهم فنانين مبدعين كبيكاسو وجياكوميتي ([5]) .
أما فيما يخص الأشكال الرامزة للأفكار فقد جاءت في عمارة وفنون الشرق القديم منذ أمد سحيق في حضارات العراق والشام ومصر ،بشكلها التعبيري ولاسيما في العمارة الدينية مثلما هو مربع مسقط الزقورة الدال على الاستقرار أو العدل الإلهي من خلال إيحاء التساوي بين أضلاعه ، والذي استمر في العقلية المحلية و تجسد في مدلولات التسمية كما هو الحال في أسم مدينة أربيل الآشورية (أربع آيل) أي الآلهة الأربعة أو مدينة الخليل (حبرون) التي كناها الكنعانيون القرى الأربع (كريات اربع). أما صيغة التدرج الحجمي في الزقورة التي أريد لها التعبير عن درجات الحظوة والأيمان لدى العراقيين القدماء ،أو ربما الصفة الصرحية الباسقة المعبرة عن السمو او التقرب لإلهتهم الساكن في الأعالي .
و نجد أن عقيدة الإسلام لم تحدد قدسيتها لشكل بعينه ولم يأت ما يصرح بذلك بالرغم مما نعته منظرو الفن و الجمال المحدثين بان المربع أكتسب الحظوة والتفضيل في المنظومات المعمارية والزخرفية في الفنون التي تطورت في كنف الإسلام . وبالرغم من أن الأشكال الهندسية بعينها كانت تخدم المنحى التجريدي الذي سار علية المذهب الفني والذي افرغ رمزيا الأشياء من أجزائها العضوية واكتفى بخطوطها الرئيسية التي تتمثل بالأشكال الهندسية .
ونعلم أن مقاس الأضلاع هي التي تحدد طبيعة الشكل وتحدد ماهيته وتسميته فالطول والعرض إحداثيات للرمز وللتمييز، ونجد في السياق إنتباهة لبيبة أوردها الجاحظ البصري بصدد المقارنة بين الطول والعرض حيث خصص لها رسالة عنوانها (كتاب التربيع والتدوير ) الذي يخبرنا فيه: (ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل الجنة بالعرض دون الطولحيث يقول: ” وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ).ولهذا المفهوم هواجسه المتجذرة في العقلية المحلية فحواها الحساسية من الطول الفارع كبعد ثالث يتحاشاه الناس بما يوحي بالطغيان ويذكر بأسطورة برج نمرود الذي تمرد على الإله، والذي ورد بإيحاء شعري لدى الخنساء:
كل امرئ بأثافي الشر مرجوم وكل بيت طويل السمك مهدوم
والرمزية عموما أمر مختلف علية في مدارس الفقه الإسلامي فقد تكون محببة لدى المناحي الصوفية والشيعية والكلامية والباطنية بينما نجد رفضها يكاد يكون قطعي في المذاهب السلفية والظاهرية مثل الخوارج و الحنابلة([6]) ومن تبعهم حتى اليوم ،والتي تعّده إشغالا عن التركيز في جوهر الدين ومتاهة تؤدي بالمؤمن إلى التأويل المؤدي إلى التيهية في اليقين وبالتالي اكتسابها صفة البدعة ثم الضلالة المؤدية الى جهنم .
بيد اننا نتفق على المبدأ بأن الرمزية بحد ذاتها لو أضحت هدفاً ومقصداً للأيمان، فحينئذ تدخل في باب الترهات وتفقد السند العقيدي وتنأى عن جوهر المنهج الإسلامي المباشر والصريح والأمر عينه ينطبق على نتاج الفنان حينما يجسد رسما ،فان كانت بقصد الحظوة والقدسية ، فأنه يدخل من باب البدع وإشكالية الغاية والوسيلة .وبذلك نصل إلى حالة الفرق بين تأويل الأمور ورمزيتها التي يجب أن لا تمس ” بأي حال من الأحوال” الثوابت في العقيدة ،وأهمها الشرك بالذات الإلهية المنزهة.
وبعيدا عن باطنية التأويل وصراحة الأشكال والرموز و الذي اختلف بها فقهاء الفرق الإسلامية ومؤيديهم . فأن الإقرار بان للتشبيه والرمزية وجود في النصوص القرآنية أمر مفروغ منه كما هو وارد في الذكر الحكيم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ([7]). وفي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)([8]). ويمكن أن تكون هذه الرمزية مصدر الهام و وحي لرهط من الفنانين المسلمين الذي ارتأوا بها مبرر منطقي.ويقول بهذا الصدد الجزائري محمد أركون ردا على منتقديه بأن وصفه لنصوص القرآن بأنها رمزية ليست أمر سلبي أو شائن ، أنه يعني أن البنية اللغوية أو الأسلوبية للقرآن هي بنية مجازية رمزية في معظمها ، فالمجاز والاستعارة والحكاية وضرب الأمثال تخترق كلية الخطاب القرآني من أوله إلى آخره … ) ([9]).
والتوضيح من خلال رمزية الأشكال وردت في الأحاديث النبوية الشريفة كما في:(خط النبي(ص) خطا مربعا وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغار إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال هذا الإنسان وهذا اجله محيط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فأن أخطأ هذا نهشه هذا وان اخطأ هذا نهشه هذا) ([10]) .فالأمر وارد في السيرة ،ولا يمكن أن يعّد بدعة كما يراد لها عند البعض ممن يخشى من الفلسفة والكلام ومنطق الأمور، التي نظن بأنه ربما يكشف الكثير من عيوب التأويلات،بما جعلها تكشف نصوص وتخبأ أخرى بحسب متطلبات الطرح وغاياته.
ونجد في كتاب (الحس الوحدوي وتأثير القيم الصوفية على العمارة التراثية الفارسية) ([11])تصنيف للرمزية، وبأنها نوعين: الطبيعية والمكتشفة وان الإنسان في تشكيلاته الفنية يستقي النظم من المظاهر الطبيعية ويضعها في الإشكال الهندسية المتماثلة حول مركزها وهي في هذه الحالة تمثل (التوحد من خلال الوحدة)والتي هي الصورة الصادقة للتوحيد . وبصدد الدين ونظمه يقولان ( إن الشريعة الإسلامية لم تكن هي الموجه الأساس لمبادئ الإنسان التقليدي بقدر ما كانت الطريقة التي ينتهجها هي الموجه لهذه المبادئ التي حكمت الفن والعمارة الإسلامية ).وبصدد رمزية الدائرة الصوفية الواردة في رقصات الطرق المولوية والتي ذكرى فحواها بحيث ( إن العلاقة بين الحقيقة والطريقة والشريعة يرمز لها بالدائرة حيث تكون الشريعة هي المحيط والطريقة هي القطر المؤدي إلى المركز والحقيقة هي المركز) .
وثمة إقتضاب او إسهاب لرمزية الأشكال في شروحات فلسفة الفنون وعلم الجمال ، وترد في العمارة من خلال الحالة التحليلية للعناصر والهيئات والمساقط .وفي عمارة المسلمين وردت في شروح بعض منظري العمارة من “مستشرقين ومستغربين”. وبالرغم من كون بعض التحاليل تطأ تفاسير معقولة ،فأن البعض أطنب في الرمزية. و نجد شروحات وممارسات رمزية للأشكال وردت في العمارة والفنون العراقية والمصرية والشاميه، تحتاج الى فك طلسمها من خلال سلطان البحث التحليلي المقارن من خلال قراءة اللقى المشتته والمخزنه في المتاحف العالمية.
ويذهب بعض المستشرقين بأن للرمزية اليونانية تأثير جوهري على الفن الإسلامي ،”كما هي ديدنهم ” في سياقات النزعة (للمركزية الغربية). ويذهبون الى أن فكر اقليدس وأفلاطون وارسطو في الأشكال الهندسية ورمزيتها يمكن أن يكون قد اعتمد كمصادر للمعرفة بعدما تم ترجمتها من طرف المسلمين ابتداء من أواسط القرن الثامن ويعلق على ذلك المعمار الفرنسي (أندريه باكار) ([12]) بان ( اهتدى الفنانون المسلمون إلى تلك الأشكال بسبب ميل الإسلام الطبيعي إلى الأفكار التجريدية والتزموا بتحريمه تصوير الكائنات الحية فلم يلبثوا أن اصبحوا مبتكرين مدهشين للفن غير التشبيهي ).وهنا حري أن نشير إلى أن الإمام أبي حنيفة النعمان(699-767م) قد تعامل مع مبدأ القياس “بغض النظر عن حيثياته” وهو طرق منطقي مجرد وعالي الملكة،وذلك قبل ان يترجم كتاب أرسطوطاليس في المنطق بحوالي سبعين عام، بما يدلل على ان مفاهيم المنطق كانت راسخة قبل ذلك الزمن،ونذهب في ذلك الى أنها تعود الى سليقة فكرية محلية مكثت حتى في أحلك ظروف الدعة الحضارية في طيات العرف الشعبي،ولم يكن يحتاج القوم للإطلاع على ترجمات اليونان كي يتمنطقوا.ومازالت أعرافها في الوسط الشعبي تتداول مبادئ منطقية وأفكار جدلية دون أن يكون متداوليها يقرءون، ليطلعوا على مقولات أرسطوطاليس.
[2] د.زهير صاحب-مقال الكتابة السومرية-جريدة المدى-بغداد.
[3] شوفي رافع- الرمزية-مجلة العربي الكويت- العدد422 –يناير 1994.
[4] رينيه ويج : مصر ملتقى الشرق والغرب -1994 -ص 42
[5] عبدالكبير الخطيبي- مقدمة في الفن العربي المعاصر- مجلة نزوى –العدد 29 –عمان 2002.
[6] الحنابلة متأتية من مذهب الفقيه البغدادي المولود في مرو في آسيا الوسطى أحمد بن حنبل الذي عاش بين القرنين الثاني والثالث الهجريين -الثامن والتاسع الميلاديين.وهو من المذاهب التي يعتبرها البعض متشددة وقد حاول أحيائها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الكردي السوري في القرن التاسع الهجري -الخامس عشر الميلادي ،ويمكن أن يكون الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد سار على خط إبن حنبل وإبن تيمية في تعاليمه.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC