إذا كانت القصة هي المساحة التي يصمت فيها المبدع لكي يترك لإنثيالات تفكيره العنان ويقول ما يحلو له، دون التفوه بحرف لأنها فضاء للمبدع والمتلقي معا، فإن تيار الوعي هنا هو سيد الموقف والأداة الأقرب للبوح ، والمرتقى الأقرب للنبض ، نتخلص به من معاناة الحاضر هاربين إلى الحلم رافضين لمرارة ما، هروبا مما يؤرق وجودنا وتحد لواقع مرفوض، وتحطيما لجدران تعيق انطلاقنا.
تلجأ الأنثى من هنا وكعامل تعويضي ، للكتابة عن حالات في حيوات النساء ، مركزة على جوانب العظمة والقوة ، وتعمل جاهدة على رفض ضعفها ، خارجة عليه بوسائل دفاع عن الذات كثيرة ،وإذا اضطرت أمام حالة الرجل والتي لا مناص لها منها ،فإننا نجدها تجاهد لنحت صورة له وعنه، لا تنبع إلا من أحلامها وخيالاتها، وكأنها ترفض وجود الرجل الذي من دم ولحم وتخلق له معادلا موضوعيا يناسب المتخيل عنه وما ترسمه في خيالاتها، مهما كان ذلك بعيدا عن الواقع المعاش.
نجد المبدعة تغذ السير بحثا عن طوق نجاة (عمل حر مستقر/ وظيفة /حب متخيل/أو صدر أم رؤوم) المهم أن يكون طوق نجاة تركن إليه، وصدرا حنونا تلقي عليه أتعابها كما هو حال الأم في قصة (عايدة النوباني)(المفتاح) .
يأتي المعجم اللغوي في قصة المفتاح غاصا بمفردات الفجيعة وعباراتها مع ما يلائم ذلك من تمزق وتوتر وقلق حد المفارقة أحيانا…
في قصة (المفتاح) المحمّل بدلالات رمزية، تتوجه البطلة الساردة إلى أمها مستخدمة ضمير المتكلم، الأصدق بوحا والأقرب للمتلقي حميمية (لمن الجأ اليوم ولمن أتوجه بالبكاء؟).
بتضمين وجودي رافض ، تجترح مرارته حياة الساردة، تفيض بتساؤلاتها الفلسفية “لست أعشق الموت”، لكنها تعكس رفضها للاستمرار في عيش لمجرد العيش بلا مقومات إنسانية…”لا أريد أن أحيا بهذا الخراب”الذي يخنق الروح ويضطر ضياء الشمس أن تختفي خلف الغيوم البلهاء”.
” لمن أتجه بالبكاء” ، لازمة تظل أنثى “المفتاح”تلح بها على النص وعلى مجال التفكير منها، بحثا عن المواضعات التي وصلت بنا وأوصلتنا لهذا الخراب.
مفارقة تجترحها الساردة في خطابها للأم ،/ الموئل والملاذ والصدر الدافئ وصاحبة العينيين المفعمتين بالصدق،رغم قسوتها الظاهرة ، لكنها تبكي بصمت على وسادتها المزركشة.
هي الأم إذا، صريعة مواضعات اجتماعية أسرية ضاغطة ، لكنها تتسامى على جراح روحها وتواجه العاصفة،فإذا لاذت بوسادتها بكت حالها ومصيرها بدموع حارقة ، على العكس من ابنتها غضة الروح والجسم والتجربة.
تمزج الكاتبة ، بذكاء لافت وحركة رمزية تداخل الخاص بالعام فيصبح وجه الأم رمزا لوطن مسلوب.
تعود لذاتها ، تحكي مأساتها الخاصة في انعطافه سلسة وتضمين وجودي حارق أسيآن..”آه يا أمي،كلنا نبدأ أكبر من ذواتنا وتسجننا الأسماء في مغلفات صغيرة … الرسائل المكتوبة على عجل…أنت لا تعرفين كيف تكون الرسائل بطعم الحريق….
إنه الزمان الذي يعجننا كأدوات طيعة، أصبح زمانا بلا مشاعر،ولأننا لا نستطيع التأقلم مع محيطنا مصبوغ الوجه بدهانات الزيف وحب الذات والعلاقات المشوهة العابرة ، تقرر أن تجمع أشياءها وتترك في الزوايا بعض ذكرياتها ورسالته الأخيرة لأنها بعد مخاضات عسيرة لم تعد تجيد الحب المفتعل .
وجع تكوين أسرة بلا نواهض عقلية عاطفية هو ما يوقعها في تناقضات مع الذات والآخر والمحيط ، فتخرج من المعركة مهيضة الجناح بلا سند غير صدر الأم.
طلب منها أن تظل مجرد بقاء لا جذور له، لإنجاب طفل بلا انتماء حقيقي نفسي له ، مجاراة للواقع والعرف، ورغبة الأم التي تبحث لإبنتها عن مجرد ستر.
قبلت تقمص الدور دونما التفات” لنبض داخلها” .
تعود البطلة الساردة إلى الموروث تسأله” لماذا لم تحمل شيئا من صفات أمها ؟ولماذا لا تكون مثلها وتحقق وعد المخيال الشعبي” اقلب الجرة على فمها تأتي البنت كأمها”.
تعود ثانية لتمزج في جدلية متقنة /المفتاح/ بكل ما يحمل من ذكريات واختزان ملامح طفولة وغيابات وطن.
وكما كان المفتاح للأم رمزا لحلم جميل ، ووعدا لغد أجمل ، كان للساردة البطلة ،أداة ألم وسكين وجع، كلما أوغلت في الحياة ، حتى لم يكن محط تفاهم ولا التقاء بين الزوجين ، إذ ما توانى الزوج عن إعلان تذمره من المفتاح ، كأنما يحاول أن يسقط من حاضره أي رمز يعيده للماضي ويربطه به ،وظلت على عنادها ، وظل على تذمره حتى انتهت حياتهما بالفراق!!!
جيلين يمثلان الاختلاف الجذري في النظر للواقع، الأم إذ ترى في الطلاق خراب كبير، والساردة البطلة الشابة إذ ترى فيه مشروع حرية وخلاص وعيش كريم ..” الخراب الأكبر أن نمضي بهذه الحياة بلا أمل ، ما بيني وبين من كان زوجي أكبر من كل الأبواب التي تركناها خلفنا”
لم يلتقيا على هدف ولو كان صغيرا،غير الإنجاب بلا هدف أو رسالة، كانت تحب جمع الذكريات احتماء من الموت وهروبا للحياة،بينما الزوج لا يرى فيها غير مجرد هواية لأشياء قديمة لا تعنيه، فكشّر عن أنيابه عند معرفته أن الأشياء الصغيرة كانت ذكرى لحب قديم .
لماذا اعترفت له بسرها؟ أهو الانتقام ومحاولة رد الاعتبار لذاتها المهانة؟
تعلن الساردة البطلة صرختها مدوية أمام مشاريع زواج ” تمشية الحال” الذي سيؤول إلى أنقاض ما دام لم يقم على التفاهم والحب والاحترام …” يستطيع الحب ألا يأتي، ونستطيع أن نتزوج وننجب ونكبر حتى الموت”.. لم يأت الحب بين أم الساردة وبين زوجها ،لكن الأولاد جاءوا ، رغم تذمر الأب من طعام الأم ورائحة التبغ في أنفاسه وطريقته الفجة في الحديث معها أمام الناس دون احتجاجها ولو لمرة واحدة ، أنا يا أمي لا أصلح لمثل هذا التراث الهائل من الخيبات .
وصل الحوار الأخرس بين الزوجين إلى طريق مسدود، وبدل أن يبحثا عن مخرج ، نراه يمعن في طلب التزاوج أكثر ليأتي بمزيد من الأرواح والأفواه لهذه الدنيا !!
تعاود الساردة عزف سيمفونية حزن فلسفتها الوجودية على دماغ أمها الوحيدة التي تسمعها في هذا العدم !!
اصرخي يا أمي،قولي ما تشائين، اغضبي، انعتيني بالجنون، فأنا أستطيع أن أسمع صوتك… الشوارع على اكتظاظها لن تخفي صوتك ، ولا الدموع ولا دوي الطائرات، اقتليني بغربتي التي اغتالت روحي، اصرخي كي لا أمضي كالمذعورة إلى بابك القديم وأجلس منتظرة حبا لا أظنه يجيء………………
تتنازع المبدعة (عائدة النوباني) وسائل منوعة للتعبير : شعرية وسردية وقراءات نقدية ،غير أنني أرى أنها ستركن وتخلص للجانب السردي الذي يمنحها نفسا أوسع وفضاء أعمق وزاوية للرؤية والتعبير شاسعة ، وهي المخلصة الدءوبة لنبضها وحرفها، وإن كانت لا تتقن بل، وتنأى عن فن الترويج الرخيص الذي بات منتشرا لدى بعض مدعيات الإبداع و بشكل لافت في هذه الأيام .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC