اتّصل بي عبر الهاتف يوم الاثنين 2 جويلية الماضي مساء الكاتب والصحفي المصريّ الأستاذ أحمد الشيخ . أحسست من نبرته لأوّل وهلة أنّ ثمّة نبأ غير سار سيخبرني به قبل أن ينعى لي أحد أصدقاء العمر الدكتور محمود العزب الذي وافاه الأجل المحتوم صبيحة يوم الأحد 1 حزيران/ جويلية نتيجة أزمة قلبية حادة انتابته في مكان عمله بجامعة الأزهر في القاهرة .
نزل عليّ هذا الخبر كالصاعقة وفاجأني رغم إيماني العميق بالقضاء و القدر و أنّ كلّ نفس ذائقة الموت لكوني التقيت محمود العزب صحبة الدكتور حسين رئيس منذ بضعة أشهر وكان على أحسن ما يرام وفي صحّة جيّدة، لقد أقلع عن التدخين وبدأ يولي اهتماما بصحته.
في موقف كهذا عادت بي ذاكرتي إلى تلك السنوات الأولى التي تعرفنا فيها على بعضنا البعض، انطلاقا من سنة 1982 ، كانت الكثير من الأحلام والمشاريع تجمعنا ، كنا نلتقي في المطعم الجامعي الدولي بباريس صحبة الدكتورإبراهيم أبو الصواب، الذي التحق بعد الانتهاء من دراسته مدرّسا بجامعة الأخوين بمدينة إفران بالمغرب.
تطورت علاقتي بمحود العزب، حتى أصبحت عائلية. لما انتهى من مناقشة رسالته في اللغات السامية التي كان موضوعها دراسة مقارنة بين لغة القرآن ولغة التوراة عام 1986 شد الرحال عائدا إلى جامعة الأزهرالتي كانت قد أرسلته إلى باريس لإعداد رسالة دكتوراه دولة في اللغات السامية بجامعة السربون تحت إشراف المستشرق كلود كوهين، في السوربون درّس اللغة العبرية والأدب العربي واللغة العربية، لكنه لم يمكث فيها طويلا فالتحق بجامعة تشاد لتدريس الحضارة الإسلامية حيث قضى عدة سنوات هنالك قبل أن يعود إلى الأزهر، ثمّ يلتحق فيما بعد بمدرسة اللغات الشرقية بباريس مدرّسا للغة العربية والحضارة الإسلامية.
عندما تعرفت عليه كان قد صدر له ديوان شعر بعنوان : “أما بعد”، تطرق فيه إلى الهجرة والمنفى، وإلى الحلم بتغيير الأوضاع العربية ، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي كانت تستحوذ على معظم أوقات نقاشاتنا وحواراتنا، علاوة على التخطيط للعودة إلى بلداننا للمساهمة في تغيير الأوضاع القائمة، وتحقيق غد أجمل تسود فيه الحرية والمساواة والديمقراطية التي كانت شغلنا الشاغل، والعمل من أجل بناء مؤسسات ثقافية حقيقية قادرة على تكوين عقول عربية مستنيرة تؤمن بالحوار والتشييد لمستقبل الأجيال القادمة.
ساهم محمود العزب في برنامج بإذاعة الشرق كان يتناوب عليه هو والمرحوم الدكتور محمد عرقون الذي ترجم له كتاب الأنسنة والإسلام، الصادر في بيروت، عن منشورات دار الطليعة عام 2010..
صدرت للدكتور محمود عزب مجموعة من المؤلفات نذكر منها “ملامح التنوير في مناهج التفسير”، الصادر في القاهرة، عام 2006، و “إشكاليات ترجمة معاني القرآن الكريم: اللغة والمعنى”، الصادر في القاهرة سنة 2010. كما كانت له مشاريع عديدة إما تحت الطبع، أو تنتظر النشر.
كان لي موعد معه ذات يوم من أيام شهر يونيو/ جوان 2010، لكنه اتصل بي عبر الهاتف معتذرا ليقول لي: صديقي العزيز وردت عليّ مكالمة مهمة من الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب شيخ الأزهر يطلب مني أن أكون مستشاره في موضوع حوار الحضارات . غير أنّه
كان لا يفوّت فرصة للالتقاء بي في أغلب المرات التي كان يأتي فيها إلى باريس، سواء لمناقشة رسالة دكتوراه، أو للمساهمة في لقاءات أو ندوات، خاصة بعد الثورة المصرية التي كان فاعلا فيها وعائلته بمساندته للشباب على عين المكان في حي التحرير.
درّس اللغة العربية في المركز الثقافي المصري، وفي معهد اللسان، وفي المعهد العالمي للفكر الإسلامي، كما أثرى النقاشات الفكرية بحضوره المتواصل في الجمعيات والجامعات في فرنسا وأوروبا وفي العالم العربي، خاصة في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان بالقاهرة، الذي كان دائم التردد عليه للمساهمة في الحواربين الديانات، لكونه كان متعمقا في معرفة نصوصها الأصليّة وعلى دراية شاملة بالمواضيع التي تثير الخلاف بين المسلمين والمسيحيين..
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه جنة جنانه وألهم زوجته وابنتيه الصبر والسلوان، إنّ لله وإن إليه راجعون
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC