من لا يعرف صبيح كلش لم يكتشف حتى الآن كينونة الجمال الداخلي للإنسان.. لوحاته مرآة لروحه النقية، وفرشاته قلم لم تكسر سنّه محنة العراق الدامية وألوانه لغة بسيطة يخاطب بها الكائنات قاطبةً والضوء النابع من سطح اللوحة يسطع في الحقيقة من روحه التوَّاقة للحرية، أوجاعه يسردها في ضحكة، وينفث دخانها في جلسة مع الأصحاب، شاعر يرسم الموسيقى بالفرشاة ويعزف سيمفونية الوجع العراقي على خطوط لوحاته.. صبيح كلش واقع مؤلم يختبئ تحت قشرة من الفكاهة.. في معرضه الرابع عشر في بغداد هذا العام مازال يذكِّر محبيه بولهه بالحرف العربي السمة التي لا تكاد تغادر لوحات الفنان حيث يظهر الحرف على سطح اللوحة (كلمات أو قصائد أو وحدات زخرفيةوحين بانسيابيته ومرونته حيث نجح في توظيف الحرف العربي بأكثر من وجه. فتارةً تطالع العين الحرف وكأنه يحتضناللوحة كخلفية منمنمة من الحروف، وتارةً أخرى يتصدر الوسط والحدث اللوني يدور من حوله، وأحايين كثيرة نرى الحرف يمتزج بالحشود حيث نطالع (ثورة) أو (احتشاد) للحروففي مظاهره لونية تبعث على الدهشة والتساؤل.. مزج صبيح كلش بين الحرف العربي في صيغة المحتوى المقروء (شعرًا وأقوالا مأثورة وكلمات وحيدة معزولة) وحرف عربي آخر مفرّغ من المحتوى تمامًا يتماهى على خلفية اللوحة لهذا ترك مساحة شاسعة ومريحة للمتلقي بأن يتأمل ويضفي عليها منإحساسه ورؤيته الخاصة.
صبيح كلش الذي ينتمي إلى مدرسة السبعينيات الفنية يمتاح من معين تراثي للحروفيات موغل في تاريخ الحركة الفنية بدأه الرسام السويسري الألماني بول كيلي الأب الشرعي للحروفيات العربية وهو أول من مثل التجريديات الحروفية في حركة الفن التشكيلي العالمي الحديث، ولا نذهب بعيدًا فبعيدا عن مبدأية الريادة لهذا الفن عربيًا فصبيح كلش يحيلنا تاريخيا إلى العراقي شاكر حسن آل سعيد مبدع فكرة مدرسة البعد الواحد الذي أكَّد على: “أن تحقيق البعد الواحد بواسطة الحرف العربي هو نزعة تأملية لوجود الذات الإنسانية عند مستوى الوجود الكوني”. حيث وجد في الحرف العربي القيمة التشكيلية القادرة على بناء كيان جمالي تجريدي.
واعتمد الفنان في لوحاته على التجريد ليس ابتعادا متعمدًا عن تمثيل الطبيعة في أشكالها واتجاهاتها وإنما رغبةً في واستخلاص الجوهر من الشكل الطبيعي ؛ وعرضه في شكل جديد بهدف الحصول على نتائج فنية عن طريق الشكل والخط واللون ، فتحل بذلك الفكرة المعنوية او المضمون محل الصورة العضوية أو الشكل الطبيعي حتى وإن بدت غامضة حيث التحول من الخصائص الجزئية إلى الصفات الكلية ومن الفردية إلى التعميم المطلق ، لذا كان تجريد صبيح كلش يتطلب تعرية الطبيعة من حلتها العضوية ومن أرديتها الحيوية كي تكشف عن أسرارها الكامنة ومعانيها الغامضة. وجاءت الحروفيات داخل لوحته الفنية نادرًا على شكل كتابات عفوية ربما تمثل ارتباطا بمشاعره الداخلية. وربما بمثابة توجيه الإبداع الفني بطابع حضاري تتميز به هويته الفنية المشدودة دائما نحو الوطن الأم لذلك لم يستلهم فنان البعد الواحد عنصر الكتابة بدافع جمالي او تقني في استجلاء مضمونها اللغوي، فهو اكتفى بمضمونها الفلسفي – الروحي المؤثر في الحواس، وجعل من الحرف وسيلة وليس غاية جمالية.
في لوحات صبيح كلش نجده يرسم تجربته صورا تتناغم مع حروفيات اللغة ويمزج الألوان من حكايات الصمت وضجيجها المشع بريقا من بوح الروح يُحلِّق بأشكاله التعبيرية والانطباعية يمتح من مخزون فكري وإنساني يواكب الحداثة بالبحث والتجديد وبتعبير (مروة كريديه)يمزج الفنان مع أقرانه المعاصرين فن الحروفيات بالفن التجريدي الأمر الذي أضاف بُعدًا “غنوصيًّا” انعكس في لوحات تشكيلية رائعة تنزاح بالناظر عن شكليات الصورة الى البعد الرمزي، فبعد أن كانت لوحات فن الخط في معظمها تعكس آية قرآنية أو قولا مأثورًا أو شعرًا أو حكمة لها دلالتها اللغوية والبنيوية الواضحة، اكتسبت الحروفية المعاصرة بعدًا جماليًّا فائقًا من خلال مزج التجريد بالحرف كما اكتسبت بعدًا رمزيًّا عاليا من خلال تحول “الرسم” إلى “رمز” عالي التشفير.
غير أن صبيح كلش يتفرّد عن أقرانه بالمزج بين النزعة الصوفية الوجدانية التي تهدف إلى ما وراء الطبيعة للوصول إلى المطلق، وتوجهات الفن الحديث تعبيرا عن الخلاص من المظاهر الجمالية وقيمتها التي أسقطتها مبادئ الفن المعاصر ؛ والهروب من واقع الحياة الأليم بالبعد عن كل ماله صلة بمظاهر الطبيعة وأشكالها العضوية في مختلف صورها إلى عالم من التجريد.
ويعتمد الفنان أيضًا على الجوهر الإشاري للخط العربي وينطلق من النقطة التي منها تتولد صناعة الحرف وإليها تؤول فيما تُشكل “الحركات” البعد الصوتي للحروف، إذ أن الحرف دون حركة يبدو صامتًا تاركًا الباب مفتوحا على مصراعيه لصوتياته الاحتمالية فالنقطة أصل كل خط. فما الحرف إلا محلا هندسيًّا لنقطة متحركة، مما يحدو بنا الى استجلاء القيم الكلية من أسرار الحرف كونه الترجمة البصرية للأبعاد الصوتية كما يضفي على القيمة التشكيلية للحرف حضورًا غيبيًّا يجعله فنًا باطنيا مزدوجًا فهو : ظاهر وباطن، متحركٌ وساكن، مرئي وغير مرئي في آن معا.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC