في شتاء عام 1981 التقيت بشيخ الفلاسفة العرب المعاصرين المرحوم د/ زكي نجيب محمود في شقته التي تقع في شارع أنس بن مالك المطلة على النيل بكوبري جامعة القاهرة.. كان لقائي بالمفكر الكبير المرحوم د/ زكي نجيب أمنية شخصية قبل أن يكون مطلبا صحفيا للحوار معه بحكم مكانته العلمية الكبيرة وريادته الفكرية بعد رحيل عباس العقاد والرافعي وغيرهم.. وكان الحوار متعدد الجوانب في مسيرته الفكرية ومعاركه المختلفة ومشروعه لتجديد الفكر العربي نشر في ذلك الوقت . وقد واجه المفكر المرحوم حملة كبيرة من بعض الأقلام العلمانية بسبب موقفه من التراث والفكر العربي الإسلامي عموما والتي بدأت بكتابه” تجديد الفكر العربي” و” المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” و”ثقافتنا في مواجهة العصر”، ووصفته بالمراوغة والتناقض الذاتي والهزيمة الفكرية .. ومن هؤلاء الكتاب د/ فؤاد زكريا وغالي شكري ونصر حامد أبو زيد..
يقول د/ فؤاد زكريا في مقالة بمجلة العربي الكويتية سنة 1988م ـ مشيراً للدكتور زكي نجيب محمود ـ: في الماضي كان مجرد الاحتكاك بحضارة الغرب لفترة ما كافياً لأن يحول شخصية نشأت نشأة تقليدية تراثية خالصة مثل رفاعة الطهطاوي في اتجاه الانبهار الشديد بالغرب .. أما اليوم فإن مجموعة من المثقفين العرب البارزين الذين عاشوا في الغرب حياة طويلة واختار بعضهم الاستيطان فيه أو الهجرة الدائمة إليه يقودون ـ الحملة ضد الثقافة الغربية ويتفق موقعهم ـ كما يقول ـ في هذه الناحية اتفاقاً موضوعياً مع موقف التراثيين الذين رفضوا الغرب منذ البدء والذين لم يعرف معظمهم عن الثقافة الغربية إلا قشوراً سطحية .. لكن اللافت للنظر بحق هو هذا التحول الحاد الذي جعل أشد المفكرين العرب تشبعاً بالثقافة الغربية يرى من علامات نضجه مهاجمة تلك الثقافة التي نشر بها واستمد محتوى تفكيره منها وعاش بين ظهرانيها ردحاً طويلاً من الزمان .. فهؤلاء في تكوينهم الثقافي هم ورثة سلامة موسى وشبلي شميل ولطفي السيد ومظهر سعيد ومع ذلك فقد دار بهم الزمن دورة كاملة وأصبحوا يقفون في الطرف المضاد بقوة لأسلافهم الروحيين ؟؟ ـ ويقصد بأسلافهم الروحيين المفكر الكبير عباس العقاد ـ أيضاً الناقد غالي شكري كان أشد عنفاً وإساءة إلى هذا المفكر العربي الكبير في مقالته تلك التي كتبها بمجلة الناقد في نوفمبر 1990م بعنوان ( زكي نجيب محمود العقل المراوغ ) ومن ضمن ما قاله غالي شكري: ( كان زكي نجيب محمود أهم وأكفأ صياغة توفيقية للمشروع الوضعي لأنه أثبت قدرة هائلة على التكيف مع المتغيرات وبرهن على أن العقل الوضعي يستطيع الإيهام بأنه قد ( تطور ) من الانسحاق المطلق أمام العلم التقني للغرب لدرجة الاعتراف بالعبودية والطغيان في تكويننا منذ نشأتنا على الأرض إلى التباهي بالعروبة والتمايز بالإسلام .. إنه الإيهام لكنه ينسجم مع العقل المراوغ ؟؟ فالعصر هو ( العلوم الطبيعية ) والأصالة هي ( مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط تشط به في هذه الحياة الدنيا ).
المهم أن هذه الحملة الشرسة على د/ زكي نجيب محمود ظلت لسنوات متواصلة سواءً بالتصريح أو الرمز ـ لكنها اشتدت بعد ظهور كتبه الأخيرة التي أظهر اهتمامه بالتراث العربي الإسلامي وخاصة كتبه: ( قيم من التراث ) و ( عن الحرية أتحدث ) و ( أفكار ومواقف ) و ( رؤية إسلامية ) فما الذي ناقضه الدكتور زكي نجيب محمود في أرائه وأثارت غضب هؤلاء لحد اتهامهم له بالمراوغة والتراجع والهزيمة الفكرية الخ : يقول د/ زكي نجيب محمود في كتابه ( أفكار ومواقف ) “مضيت أقلب أوراقي أقرأ سطراً هنا وفقرة هناك وصفحة كاملة حيناً بعد حين . لكني هذه المرة أخذت طريقي مع الأيام متجهاً بها من ماض إلى حاضر ، فإذا ببوادر القلق تأخذ في الظهور ، وإذا بالحيرة تزداد حدة وبالتساؤل يعلو صوتاً ليقول : وماذا تكون قد صنعت يا أخانا إذا أنت اكتفيت بأن تسلك نفسك أوروبياً مع الأوروبيين ؟ ماذا تكون إضافتك للدنيا إذا ما جعلت من نفسك واحداً يضاف إلى كذا مليوناً من أهل أوروبا ؟ نعم ، رأيت في أوراقي شكوكاً تتقد جمراتها بين الأسطر كلما اقتربت مع تلك الأوراق من يومي هذا ، ووجدتني في موضع ما اتجه إلى نفسي بلائمة كأني أعاتبها فأقول : أتكونين يا نفسي في أمسك على رأي ، ثم تصبحين في يومك على رأي آخر ؟ ألم تريدي بالأمس ألا تختلط مصريتك بشيء من عروبة ؟ ولكني وجدت تلك النفس المتشككة تسارع إلى الجواب بنفسها فتقول : وماذا في أن ازداد تفكيراً فأتغير ؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق ؟ لقد قيل للشاعر الأمريكي العظيم ( وتمان ) وكان قد ناقض نفسه : لقد نقضت نفسك في الرأي ، وقلت بالأمس ما نسخته اليوم ؟ فأجاب : نعم إنني أنقض برأي اليوم رأي الأمس ، فماذا في ذلك ؟ ومع ذلك فلا أظنني في وقفتي الجديدة قد نقضت وقفتي الأولى ، لأنني في الحقيقة لم أنسخها ، بل أصفت إليها ، فبعد أن كنت مخموراً بشيء اسمه ثقافة الغرب ، جاءت صفحتى الجديدة لتقول : ثقافة الغرب مصقولة مع أصول الثقافة العربية ، لقد تمنيت لأمتي فيما سبق أن تكون قطعة من الغرب ، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي” .
ويضيف زكي نجيب في فقرة أخرى ” إن تاريخنا الثقافي أشبه شيء في صورته بالعمارة الإسلامية ، حين يقام البناء على رقعة من الأرض معينة الحدود حتى إذا ما صعد إلى الطابق الثاني ، برز بجوانبه ،ليجىء هذا الطابق الأعلى أوسع رقعة من الطابق الأدنى وكذلك يحدث في الطابق الثالث حين يرتكز على ما هو أدنى ، ثم يبرز بجوانبه ليصبح أرحب .. وهكذا فعلنا فعلنا في مراحلنا الثقافية ، فنحن إذا انخرطنا في الثقافة العربية ، لم نمح جذورنا الماضية ، بل بنينا فوقها طابقاً يرتكز على ذلك الماضي ثم يتسع .
لا ، ليس المطلوب للعربي إذا أراد الترقي ، إلا يكون عربياً ، بل المطلوب أن يكون عربياً جديداً ، المطلوب هو أن يظهر فينا ( سندباد عصري ) ليستأنف سيرة القديم بصورة جديدة ، وقل ذلك في الطب والهندسة والفلسفة وفي كل فرع من فروع الأدب والفن والعلم والصناعة .. أخذت أقلب أكداس الورق التي تراكمت عندي حتى ضقت بها ، لكنني خرجت من هذا كله بأن رأيت القلم الذي شطح ذات يوم في تطرفه نحو الغرب ، قد عاد آخر الأمر إلى توبة يعتدل بها ، فيكتب عن عروبة جديدة تكون هي الثقافة التي تصب جديداً في وعاء قديم ، أو تصب قديماً في وعاء جديد”. ( قلم يتوب 171 )..
لم يكن هذا الرأي هو الوحيد فيما قاله د/ زكي نجيب في ثقافة الغرب حيث راجع هذا المفكر الكبير آراءه السابقة وتقدها، وأثارت حفيظة العديد من المنبهرين بفكر الغرب وثقافته.. بل هناك آراء كثيرة ناقدة للغرب واعتزازا بالذات يقول د/ زكي:” اجتاحت أوروبا وما تزال تجتاحها موجة تعلى من الجوانب اللامعقولة من الإنسان ولعلها موجة خلقتها هناك ظروف عديدة ، لكنني أعتقد أن جزءاً كبيراً من هذا الاتجاه مرجعه لليأس من العقل أن يحقق لهم السعادة ، إنه كلام ما أظنه يقال لو أن حضارتهم في مثل الأمل الذي كانوا يحسونه في عصر التنوير ـ مثلاً ـ أو النصف الثاني من القرن الماضي .. إن الأسباب نفسها التي جعلت فلاسفة الحضارة عندهم ( مثل شبنجلر وتوينبي ) يقولون أن حضارة الغرب في طريقها إلى الأفول هي الأسباب نفسها التي تدفع الأدباء إلى الانتكاس إلى كهوف اللامعقول فراراً من العقل ، وأعتقد كذلك أننا لسنا في مثل هذه الظروف نفسها فهناك نسبة عكسية بين خيبة لرجائهم وازدهار الرجاء عندنا ، لأن ما خيب رجاءهم هو بعينه الذي أفسح أمامنا الأمل .. هم يفقدون ما يملكون ونحن نملك ما كنا نفقده ؟ )( دفاع عن المعقول ص331).
والافتراض العقلاني والنظرة الثاقبة يقتضيان التقدير والاحترام لمثل هذه المراجعات التي أبداها نجيب محمود . والتي هي بمثابة عودة واعية للذات بعد طول عناء وانكباب على المعارف والعلوم . وهذه العودة وبعد هذه السنين الطويلة من الجري وراء السراب الفلسفي والفكري لا تعد انتكاسة أو تناقضاً أو هزيمة ..بل على العكس ، النكوص و الهزيمة والتراجع تنطبق على الذين يجرون وراء الأيديولوجيات والنظريات والفلسفات ، بدون أن ينتقدوا مسارهم أو أن يجاروا سنن التطور في المراجعة الواعية كالتي يقوم بها فلاسفة الغرب أنفسهم في نقدهم لعقلانيات عصر الأنوار وما بعدها .
والغريب أن البعض من هؤلاء المفكرين الذين لا يزالون صامدين في أبراجهم العاجية وعبادة نصوصهم التي تجاوزها الزمن ، يستغربون كل جديد يطرأ على الساحة الفكرية . وبدلاً من المناقشة والحوار بطريقة ديمقراطية يلجئون إلى أساليبهم القديمة وهي الخندقة الفكرية إياها ومن ثم توجيه التهم المعروفة ، كالتي تستعملها الدول في عصر الحرب الباردة .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC