اللغة الإبداعية
د. عارف الساعدي – العراق
قطعت اللغة النقدية مشواراً طويلاً في عالم “النقد” أخذها فيه بممرات ودهاليز وصحارى وبساتين، فمرة يخضعها للمنهج، ومرات تفلت من سكة ذلك المنهج، فبعد أن تحوّل المنهج من زاوية النظر المرتبطة بسياقات المبدع إلى النظر في النص نفسه، تحولت معه اللغة النقدية، إذ أن للمناهج مفاهيمها ومصطلحاتها، ولكل منهج جديد معجم لغوي مختلف عن الآخر، مما مرّ بنا، وبعد النظر النصي الخالص تحول المنهج إلى المتلقي، وبذلك اختلفت اللغة النقدية مع التحوّل النقدي الجديد، وفي ضوء المناهج النقدية الحديثة انبثقت دعوات عديدة تطالب بأن يرتفع النقد أو ترتفع الكتابة النقدية إلى مصاف الكتابة الإبداعية، والإبداعية تعني: “أن النص النقدي هو أيضاً نص إبداعي، وليس مجرد نص شارح على هامش النص الإبداعي، فالعلاقة التي تربط النص النقدي بالعمل الأدبي ليست علاقة انصياع وخضوع تتطلب من النقد أن يتابع ويشرح ويعلن عن النصوص، بل إن الناقد يستغل النصوص مناسبةً لكتابة نص إبداعي مجاور وعلى النقد أن يعيش على الكتابة الإبداعية، لا أن يعيش منها”([1])، إن هذه الدعوة لكتابة النقد بلغة إبداعية قد طرحها بشدّة “بارت” و “دريدا” وتابعهم فيما بعد “إيهاب حسن”، إذ تقوم فكرتها على انتقال لغة النقد من “اللغة الثانية” إلى “اللغة الأولى” لغة الأدب، وبهذه اللحظة يصير النقد نصاً مفتوحاً قابلاً للقراءة، والتفكيك يمتزج فيه التشويق بالغواية،والعلم بالأدب([2])، ومثلما تبنى النقاد الغربيون تلك الدعوات، لم يكن النقاد العرب بمنأى عنها فأسهموا بكتابة نص نقدي فيه من السمات الإبداعية أكثر من السمات العلمية، ودعوا إلى المزاوجة بين النظرية والتطبيق حتى يصل النقد المعاصر إلى مرحلة التناغم المنسجم الذي يصل إلى درجة الإبداع، فإن لم يرق إلى هذه المنزلة، فهو مجرد شرح مدرسي عقيم([3])، في حين يصف أحد النقاد هذه الكتابة النقدية المرتبطة بدعوى “الإبداعية” بأنها “أم البلايا” لأنها “مصنع انتاج الالتباسات فهي المزيجة الخلابة التي تولدت من تلك المصاهرة العجيبة، نعني ما طرأ من اقتران بين الخطاب الإبداعي والخطاب النقدي، والوليد الناشئ هو ما اصطلح عليه المصطلحون بالنقد الإبداعي”([4])، ولكن لم تكن الكتابة الإبداعية منهجاً جديداً يضاف إلى مناهج النقد المعاصرة، إنما كانت دعوة لتطوير اللغة النقدية وتحويلها من هامش يعيش على النص الإبداعي إلى متن يوازي ذلك النص الإبداعي، كما إنها دعوة لتحرر اللغة النقدية من الجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي التابع للمناهج النقدية الحديثة، وانطلاق اللغة النقدية في مساحات أرحب وأوسع،وذلك لخروج النقد من منطقة التعريف بالمنهجيات الحديثة والانبهار بها عبر الانصياع لمصطلحاتها وحقولها الإجرائية إلى منطقة التأسيس الذاتية التي ينتقي فيها الناقد ما يراه مناسباً لتجربته النقدية ولنصه النقدي من مصطلحات ومفاهيم منهجية لصهرها في لغة نقدية خاصة مقصودة لذاتها ولموضوعها قادرة على خلق الاستجابة الجمالية لدى متلقيها بما يجعلها نصاً على نص.
________________________