عبدالرزاق الربيعي
حين أبلغني الصديق الشاعر حسن المطروشي ،ذات صباح من شهر ديسمبر 2010 م إنّه رتّب لي موعدا لاجراء حوار لمجلّة”دبي الثقافيّة” مع الشاعر الكبير سميح القاسم الذي كان في زيارة للسلطنة بدعوة من وزارة التراث والثقافة ضيفا على مهرجان الشعر العماني ،سعدت بالخبر، واكّد لي المطروشي الذي أحيا معه أمسية مشتركة أقامتها الوزارة بفندق “هوليدي إن ” إنّ الحوار سيكون في النادي الثقافي، خلال زيارته له، بعد أقلّ من ساعة من اتصاله بي، فشكرته ، وبدأت أستعد للقاء بشاعر كبير ، يحتلّ مكانة بارزة في الشعريّة العربيّة، تعرّفنا على نصوصه منذ سنوات الطفولة ،إذ كانت مدرجة ضمن المقررات الدراسيّة واحدا من أبرز الشعراء الفلسطينيّين الذي قاوموا الاحتلال بمواقفهم ونصوصهم:
“ربما أفقد – ما شئت – معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجّاراً
وعتّالاًوكنّاس شوارع
ربما أخدم في سوق المصانع
ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب
ربما أخمد، عرياناً وجائع
يا عدو الشمس..
لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم..”
حين وصلت النادي، وجدت القاسم الذي رحل مساء أمس الأوّل عن عالمنا ،بعد صراع طويل مع المرض قد وصل قبلي، فألقيت عليه التحيّة، وفرشت أوراقي، والقيت عليه أسئلتي التي كان يجيب عليها بكلّ لطف تشوبه روح المرح، التي عرف بها، واستمر الحوار حتى وصول الصديق الشاعر سماء عيسى، وخلال انشغاله معه وجدت الفرصة سانحة لأتّصل بالصديق موسى الفرعي وأبلغه عن لقائي بالشاعر الكبير ، وضرورة انضمامه لنا، وبعد نصف ساعة وصل الفرعي بصحبة الصديق الشاعر إبراهيم السالمي، فتحوّل مسار الحديث إلى الأنشطة التي تقيمها المؤسسات الثقافية العمانية، ومنها صالون “سبلة عمان “الثقافي الذي كان يقام في اول ثلاثاء من كل شهر، فطرح عليه الفرعي فكرة استضافته ،فرحّب بالفكرة، وجرى الإتفاق على استضافته في إحدى أماسي الصالون، وقال “سأبلغكم لاحقا بالوقت المناسب ” شكره الفرعي، والتقطنا معه صورا تذكاريّة، ثم واصلت حواري معه إذ تحدّث عن زيارته للسلطنة فقال “لا أعتبر نفسي زائرا بل عائدا الى جذور قديمة جدا وهؤلاء إخوتي وأهلي وأخواني وأبناء شعبي فأنا لا أستوعب وصفالشعب الفلسطيني أو العماني بل يجب أن يقال عرب فلسطين وعرب عمان ” معبّرا عن سعادته بدعوة السلطنة في الوقت الذي “لاتجرؤ أقطار عربية كثيرة على دعوته “كما قال ” لأن الاحتلال ما يزال مستمرا والمقاومة مستمرة أيضا”
وقال “الجميل إن زيارتي للسلطنة تزامنت مع وصول سفينة” زينة البحار” السلطانية العمانية الى موانيء الكويت، وهذا بحد ذاته حدث ثقافي كبير، ففي هذه الرحلة الرمزية إستعادة لتاريخ حضاري عربي وإسلامي مجيد إنطلق من هذه الأرض الى العالم الذي يتحدث حاليا عن قواعد إنطلاق سفن الفضاء بالنسبة لي أرى في عمان قاعدة إنطلاق سفن البحر بكل ماتحمله من ثقافة ولغة ودين وبضائع تجارية ونشر ثقافة وحضارة أسست للثقافة العربية، ولامبراطورية تمتد من الصين الى سواحل أفريقيا”
ولم ينته حواري معه حتى وصول القاصّة هدى حمد، إذ كانت على موعد معه لإجراء حوار لجريدة “عمان”، فودّعته ،وغادرت النادي على أمل أن تجمعني به فرصة ثانية خلال زيارته التي اتفقنا معه عليها ، ومرّت الشهور، نشر الحوار في “دبي الثقافيّة”، وكما أخبرني مدير تحريرها الصديق نوّاف يونس، إنّه اطّلع عليه، واتّصل بالمجلة، واتّفق معه على مجموعة تصدر ضمن كتاب”دبي الثقافيّة”، وذات يوم أخبرني الصديق الشاعر سيف الرحبي إنّه تلقّى اتصالا من القاسم يقول إنّه جاهز للدعوة، فأبلغت الأخ الفرعي، وبدأنا بالفعل بالتحضيرات، ورأى الفرعي إنّ قامة شعريّة كبيرة كسميح القاسم لابدّ أن تستضاف بشكل لائق ، فاستغرق ذلك وقتا، وحين انهينا تلك التحضيرات أردنا تحديد الوقت، بالتنسيق معه، وكان الهاتف لايردّ، حتى أبلغتني الصديقة الشاعرة أمل الجبوري إنّه يعاني من مرض عضال، وتعاطيه العلاج يحول بينه وتلبية أيّة دعوة ، واقترحت تأجيلها حتى يتحسّن، وهذا ماكان، لكنّ الأخبار الواردة من بلدة “الرامة” في الجليل القريبة من عكا حيث كان يقيم، وهي البلدة التي ولد بها عام 1939 ، حزينة، وظل أمر الدعوة في علم الغيب حتى قرأت مؤخّرا عن تدهور حالته الصحيّة ، لنخسر شاعرا كبيرا
رحل سميح القاسم وذبلت ثالث زهرة في باقة القصيدة الفلسطينيّة التي أسست لتيار شعري سمّي بــ”شعراء المقاومة الفلسطينية ” برز خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى جانب الكبيرين محمود درويش وتوفيق زياد الذي رحل قبلهما بسنوات، جعل للكلمة وظيفة لاتقل عن الرصاصة في الصراع الدائر مع “أعداء الشمس” والحرية .
رحل سميح القاسم ، وظلّت القصيدة المقاومة تسكن قلب كل إنسان عربي ينبض بحب الأرض التي ماتزال تهتزّ رافضة أقدام المحتل.
رحل وظل صوت سميح القاسم “منتصب القامة يمشي ” كماتفصح قصيدته التي غناها مرسيل خليفة:
“منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي”
رحل الشاعر الكبير وظل نصه شاخصا في ذاكرة القصيدة العربية ،وظلّت دعوة”أثير” له لزيارة “مسقط” مفتوحة لزمن قادم يخرج من رحم الشعر.