فضاءات

الحلقة الثانية عشرة التطرف الديني والرأي الآخر (1) تعددية الرأي سنة كونية

الحلقة الثانية عشرة التطرف الديني والرأي الآخر (1) تعددية الرأي سنة كونية
الحلقة الثانية عشرة التطرف الديني والرأي الآخر (1) تعددية الرأي سنة كونية الحلقة الثانية عشرة التطرف الديني والرأي الآخر (1) تعددية الرأي سنة كونية

يكتبها : بدر العبري

الرأي كلمة واسعة تحوي في مفرداتها أبعادا متعددة، وأفقا متنوعة، تَعطي العالمَ البشري روحا من الجمال، وتضيف إلى الوجود الإنساني جانبا مهما لا كتشاف خبايا الكون، واستغلال هذه السنن في خدمة الذات البشرية، والتقدم بالجنس الإنساني.

وتعددية الرأي نشأ عن طريق المراحل التجريبية البسيطة مع الحياة من خلال الدهشة، مما قوّى عنصرَ الخيال في بني الإنسان، وعليه مع مرور الزمن بدأت فلسفة التحليل والاستقراء، فتطور المنطق والفلسفة، وتشعبت الآراء وتنوعت يوما بعد يوم، ومع اكتشاف سنن جديدة في خبايا الكون، وتلاحم الاستنتاج العقلي بالتجربة الطبيعية؛ استطاع الإنسان أن يطوّر وجودَه، وأن يغذّي خياَله ليكون أقرب إلى التطبيق والواقعية، وبهذا تطورت معيشة الإنسان حتى وصلت كما نراها اليوم.

وعليه كان تعدد الرأي عنصر  تقدم وتكامل، مما أفاد الإنسان وفلسفة وجوده، ونوّع عناصر المعرفة، كما أنه أضاف سبلا جديدة للحصول عليها، ولا يعني هذا أنّ الرأي المتعدد لم يمر بعناصر اضطهاد وتطرف مضاد؛ بل كان الاضطهاد عنصر ثبوت له وانتشار، لأنّه كما قيل لكل شيء ردة فعل، وردة الفعل حول التضييق في الآراء يتمثل في أمرين: الأول الانتشار لحب الناس في التعرف على الممنوع، والثاني: الثبات؛ لأنه سيقف على قاعدة صلبة، فهذا الفكر البروستانتي المسيحي مثلا، لم يكن يُتصور يوما ما في القرن السادس عشر أن يكون بهذا الانتشار اليوم، بسبب آلة التضييق والهيمنة السياسية عليه بدعوى الهرطقة والكفر، ولكنه أصبح اليوم واسع الانتشار، وللكنيسة الإنجيلية مكانها الكبير بين المجامع والكنائس، ولو أنه استخدم المعارضون عنصر الحوار مع مارتن لوثر (ت 1546م) ومؤيديه، لربما لم يكن لأفكاره أن تنتشر بهذه الصورة اليوم.

كذلك بالنسبة مع الجانب السياسي مثلا، فهذا الفكر الإخواني، والذي بدأ كدعوة إصلاحية مع حسن البنا (ت 1949م) في عشرينيات القرن العشرين، والذي تعرض لأكبر اضطهاد في عالم اليوم على مستوى الشرق خاصة العربي، ومع ذلك سجل حضورا سياسيا وفكريا خاصة بعد ثورات الربيع العربي 2011م.

 وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، يضرب الله تعالى لنا مثالا من خلال اكتشاف مسميات الوجود، فيقول سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، فإذا اعتبرنا معنى الأسماء هي أسماء المسميات كما يقول ابن عباس (ت 88هـ)، فإنّ هذا أقرب إلى مصادر الأسماء، ثم نتيجة التطور وتلاقح الإنسان بالإنسان من جهة، والإنسان بالبيئة من جهة أخرى، سيكتشف ذوات جديدة، وسيتزيد بذلك محصلة الأسماء، بجانب هذه الأسماء ذاتها ستتفرع في اشتقاقاتها، فالكتابة ستتفرع منها كتب، ويكتب، ونكتب، ويكتبون، وتكتبون، ونحوها.

ومع انتشار الإنسان في الأرض، ولاختلاف مصادر البيئة وتنوعها، هذا بدوره سيؤثر على تطور مصدر لغته وتنوعها، فستظهر اللهجات، ومن ثم اللغات، وعليه ستتنوع وسائل اللغة وأساليبها، وتزيد فنونها الأدبية، كلّ هذا بسبب تعددية الرأي لأنه سنة كونية دالة على وجود الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى يضرب لنا مثالا آخر من خلال قصة آدم – عليه السلام – ذاته حيث يقول: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

فآدم وزوجه حواء عندما أكلا من الشجرة أزال الله عنهما اللباس المعنوي الساتر، فتنبها إلى عوراتهما، فلم يجدا لستره ماديا إلا ورق الأشجار، فصنعا به لباسا ماديا سترا به عورتهما.

ومع تقدم الزمن، واتصال الإنسان بالبيئة استطاع أن يطوّر من أساليبه في صنع اللباس والتجمل به، والرقي بأساليب المعيشة، وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بلفظ الرياش على قول جماعة كبيرة من أهل التأويل، وقد ذكر الله تعالى الرياش بعد ذكر نزول آدم من الجنة، وهي الحديقة الكبيرة الغناء على الصحيح، يقول تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ، وهكذا عند انتشار الإنسان في أقاصي الأرض، وتنوع وسائل التعامل مع البيئة من حيوان ونبات وما يخرج من باطن الأرض من معادن ونحوها، كلّ هذا سيعدد عنصر الخيال لدى الإنسان، وعليه سيجد أكثر من رأي يغذي فكره ويدعمه لاكتشاف وسائل جديدة يطور بها معاشه، وبها يرقى في حياته.

نخلص في هذه الحلقة أنّ تعدد الرأي سنة كونية طبيعية أوجدها الله مع الإنسان، ويلخصها سبحانه في قوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، وتعدد الرأي من أهم عناصر الرقي البشري، وقمعه يولد التطرف وبأشكال متنوعة، وعلى رأسه التطرف الديني.

Your Page Title