يكتبها : بدر العبري
مفردة الرأي تكررت في القرآن الكريم وفق مشتقات متعددة، والقرآن يستخدمها كثيرا للدلالة على التحقق القطعي، فمثلا يقول عن المجرمين ومصيرهم يوم القيامة: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ، والرؤية هنا قطعية واقعية بلا شك، وهذا كثير في كتاب الله تعالى.
بينما نجد لفظة الدين في القرآن تميل إلى التعددية، فالله تعالى يقول في سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، مع أنه يقول سبحانه في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، وذلك مع كون الدين عند الله الإسلام كمنهج يستسلم له، إلا أنّ القرآن لا يلغي الاعتراف بالملل والأديان الأخرى، ويقرر حق التعايش والاعتراف بما عند الآخرين، وعليه لا إجبار أو إكراه لأحد في الدخول في الإسلام، فالحرية الاعتقادية مكفولة للجميع.
وهذا يظهر مليا مثلا في سورة الكافرون، فالله تعالى يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فالمشركون مع أنهم لا يمثلون دينا سماويا إلا أنّ القرآن اعتبر ما يشكلونه طقوسا وعقائد دينا من حيث اللغة، وأمر باحترامهم، على أن يحترموا أيضا الدين الحق.
بينما مصطلح الرأي سيستخدم بعد فترة لاعتبارين: الأول الاستخدام العقلي في التعامل مع النص، والثاني الدليل الظني دلالة والذي يسمح بتعددية الرأي في فهم النص، ويقابله الدين بمعنى الدليل القطعي دلالة والذي لا يسمح بتعددية الرأي.
أما الاعتبار الأول فكان إطلاقه مذهبيا أكثر منه منهجيا، وهو أطلق عموما نتيجة الانفتاح على مدرستين: المدرسة الأولى مدرسة أهل العقل من اليونان والإغريق، ودخول علم المنطق والفلسفة كمصطلح وفنّ، وترجمة كتب اليونان والإغريق والفرس ونحوهم، وبالتالي تأثر علماء المسلمين به، مما أوجد فنونا جديدة عند المسلمين كعلم الأصول ونحوه.
أما المدرسة الثانية فهي مدرسة أهل الكتاب، والتي كان للشام مركز لها، ولكونها كانت ذا مصدر إلهي، فقد تأثر بعض المسلمين بها، وبالتالي دخولها مع عزوها مباشرة إليهم يصعب ذلك لرفض العقلية المسلمة لها، فنتيجة الانفجار الروائي كردة فعل للعمل العقلي المنطقي حدث إدخالها بطريق آخر، إما بالإسناد إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، أو بالوقوف عند الصحابي، ولكونها من الغيبيات حُكِمَ عليها بالرفع، أو بالإسناد على كبار التابعين.
وبين الجانبين كان الجانب السياسي الأموي بداية، والذي استطاع عن طريق الرواية فرض بعض آرائه السياسية والفقهية على المجتمع، فكان المحدثون والقصاصون منبرا مهما للحكم الأموي لتبرير بعض أفعالهم، من هنا دخلت عقائد الجبر والإرجاء، وطاعة الظالم وإن طغى وفسق.
من هنا اشتهرت مدرسة أهل العراق بمدرسة الرأي، ومدرسة الحجاز بمدرسة أهل الأثر، وهذا التقسيم في نظري ليس سليما، وهو في ذاته يدخل في التشويه المذهبي، والإقصاء عن طريق استخدام الألقاب غير المقبولة في زمن ما، وبتقريب بسيط حسب نظرية العمران عند ابن خلدون (ت 808هـ) نجد هذا التشويه يتكرر اليوم وبألفاظ مرفوضة بوجه عام، وذلك نحو مصطلح العقلانيين، وإن كان القرآن أثنى على العقل في عشرات الآيات، وأمر أن يستخدم في نقد تراث الأجداد، بل وأمر بإعماله في القرآن المتلو، والقرآن الكوني، إلا أنّ مصطلح العقل أصبح ذما، وأطلق بداية كجانب تنفيري على المدرسة الإصلاحية عند الإمامين جمال الدين الأفغاني (ت 1897م) وتلميذه الإمام محمد عبده (ت 1905م)، وجعل استخدام العقل قرين استخدام منكر السنة، فالعقلاني منكر للسنة، والأمر بينهما تلازم.
وهذا ذاته ما كان حادثا بين مدرسة أهل الرأي وأهل الأثر أو الحديث، وهو الصراع الذي جرى بين مدرسة أبي حنيفة (ت 150هـ)، مع مدرسة الحنابلة، فأبو حنيفة وصم بأنه من أصحاب الرأي وعليه أصبح أبو حنيفة منكرا للسنة، ومن أهل البدع.
إذًا مصطلح الرأي هنا أصبح ذما وقدحا لكل من أعمل عقله في نقد النص وفهمه، بل وحتى في تقديم النص القرآني، وبعد ما كان يدور حول الجانبين السياسي والفقهي دخل الجانب الكلامي أو العقدي، ولذا سيظهر للساحة مصطلح جديد وهو مصطلح الاعتزال، إذ سيطلق هذا المصطلح لكل من ردّ روايات التشبيه والتجسيم، وجعل للعقل أهميه في التوفيق بين الدلالة القرآنية، والسنة الكونية، وبين الانفجار الروائي الذي احتكر بصورة خاصة عند أهل الحديث بطريقة معينة، وبالتالي رفضت المناهج الأخرى لكونها صادرة من أهل الرأي والاعتزال والخوارج، والذين سيدخلون بعد ذلك في تصنيف أهل البدع والضلال. وللحديث بقية.