فضاءات

الحلقة الخامسة عشرة التطرف الديني والتعايش (1) التعايش سنة اجتماعية قديمة

الحلقة الخامسة عشرة التطرف الديني والتعايش (1) التعايش سنة اجتماعية قديمة
الحلقة الخامسة عشرة التطرف الديني والتعايش (1) التعايش سنة اجتماعية قديمة الحلقة الخامسة عشرة التطرف الديني والتعايش (1) التعايش سنة اجتماعية قديمة

يكتبها : بدر العبري

التعايش مأخوذ من العيش، وقد عَاشَ يعِيشُ مَعَاشاً بالفتح و مَعِيشاً ، والمراد هنا تجانس مجموعة من البشر، يختلفون في توجهاتهم وأجناسهم وألوانهم وقدراتهم في بقعة معينة من الأرض، تحمل هذه البقعة مسميات متعددة، فقد يطلق عليها قرية أو مدينة أو منطقة أو دولة ونحوها، وقد يطلق على مجموعة من الدول متحدة فيما بينها في ظلّ عوامل متقاربة مثلا التعايش الخليجي أو الآسيوي، وقد تطلق على التوجه الفكري كالتعايش الإسلامي أو المسيحي أو الديني ونحوه.

أما المدني فهو نسبة إلى المدينة، وأصلها لغة من مَدَنَ بالمكان أقام به، وبابه دخل، ومنه المَدينةُ وجمعها مَدَئِنُ بالهمزة، ومُدْنٌ ومُدُنٌ مُخففا ومُثقلا، وقيل هي من دينت أي مُلكت، وفلان مَدَّنَ المدائِن تَمْدِيناً كما يُقال مَصَّر الأمصار، من هنا كانت النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم مَدَنِيٌّ، وإلى مدينة المنصور مَدِينيٌّ، وإلى مدائن كِسرى مَدَائِنيٌّ قرية شُعيب عليه السلام .

وإذا جئنا إلى الجانب التأريخي نجد أنّ التعايش المدني سنة طبيعية مع البشر، وهذا ما يقرره القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، فالناس وإن اختلفوا وتباينوا فكرا ودينا ولغة وجنسا إلا أنّ التعارف هو الذي يسود بينهم، والتعارف أصل من أصول التعايش المدني.

بيد أنّ هناك من يحاول لصق التعايش المدني بالنهضة الأوروبية (ق 14 – 16م) وهذا في جوهره مخالف للسنن البشرية، ويعارضه كذلك القوانين التأريخية فهي شاهدة على التعايش البشري منذ خلق الله الوجود على ظهر البسيطة.

وإنما نشأ هذا الإجحاف بهذه السنن ولصقها بأوروبا نتيجة عوامل متعددة، أهمها الصراع الذي جرى بين الكنيسة والحركة العلمانية والتي تنادي الأخيرة بفصل السياسة عن الدين، واعتبار الدين كما في الحركة الشيوعية أفيون الشعوب، حيث تعتبر الحركة العلمانية أنّ الدين أساس تخلف الأمم، ولا يمكن لقانون مدني أن يسود تحت ظلّ الكنيسة أو الدين، فيقول مثلا توماس جيفرسون (ت 1802م): “إنني أومن معكم أنّ الدين هو أمر بين الإنسان وربه فقط، وإنّه ما من أحدٍ غير الرب يحاسبه على إيمانه أو عبادته، وإنني أفكر بكل احترام في ذلك القانون الذي يسري على كلّ الشعب الأمريكي، والذي نص على ضرورة أن يبني المشروعُ حائطا فاصلا بين الكنيسة والدولة” .

التطرف الكنسي إلا أننا لا ننسى أنّ من أسباب النهضة الأروبية قساوسة متدينون أمثال مارتن لوثر (ت 1546م)، كما أنّ العديد من كتب الفلسفة الأغريقية والإسلامية كانت تترجم في دور الكنيسة.

إلا أنّ الإجحاف العلماني لا زال للأسف حتى اليوم يمارس نفس سياسة الكنيسة في التنكر  لحق الآخر خاصة إذا كان متدينا.

فقمع الرأي كما أنه قد حصل من التطرف الديني عند جميع الأديان، ولأسباب بشرية صاغت نصوصا قمعية تخالف السنن الكونية التي جاء الأنبياء بتأكيدها، وإزالة الضباب حولها.

كما حصل هذا من التطرف الديني أيضا هو يحصل ذاته من التطرف العلماني أو غير الديني، وبصورة أحيانا أشد وأطغى من التطرف الديني ذاته.

فما يحدث مثلا في بعض دول أوروبا حاليا كفرنسا، والتي تتغنى بالعلمانية، والتي تمارس أشدّ أنواع القمع نحو الأقليات الدينية خير شاهد لذلك.

وعليه التعايش المدني في حقيقته لا يمكن خزله في دين أو ملة أو جنس أو بلد، فهو قرين حياة الإنسان والذي يشترك مع إخوانه من البشر في بقعة معينة من الأرض.

بل سنجد الدين أحيانا يؤكد التعايش من خلال مظلة الكنيسة أو المسجد أكثر من غيره، ففي الغرب مثلا ستجد السود مع البيض في دور العبادة تحت مظلة واحدة، فلا عجب أن تجد القسيس أسودا، أو من أصول إفريقية، بينما لم تستطع الحكومة المدنية تحقيق ذلك حتى في أكثر الدول الأوروبية ديمقراطية ومدنية، فهذا أوباما لم يصل إلى الحكم إلا بعد تضحيات أريق بسببها دماء لأرواح بريئة لا ذنب لها إلا من أجل المشاركة المدنية، وهذا حدث ويحدث ليس تحت ظلّ الكنيسة، ولكن تحت ظلّ العلمانية والمدنية اللبرالية.

إذا التعايش المدني لا يجوز حصره في دين أو جنس أو مكان ونحوه، والسنن الكونية والبشرية لا تختزل بذلك، وللحديث بقية.

Your Page Title