فضاءات

الحلقة السادسة عشرة التطرف الديني والتعايش (2) التعايش والاختلاف الطبعي

الحلقة السادسة عشرة التطرف الديني والتعايش (2) التعايش والاختلاف الطبعي
الحلقة السادسة عشرة التطرف الديني والتعايش (2) التعايش والاختلاف الطبعي الحلقة السادسة عشرة التطرف الديني والتعايش (2) التعايش والاختلاف الطبعي

يكتبها : بدر العبري

جاء القرآن الكريم مؤكدّا للتعايش المدني، لأنّه سنة كونية طبيعة تجري في الحياة، والتعايش المدني مبني على ثلاث أسس رئيسة:

-اختلاف أفكار الناس وتوجهاتهم.

-اختلاف أجناس الناس وأعراقهم.

-اختلاف ميول الناس ومواهبهم.

وهذه الأسس الثلاثة نجدها عميقة البيان والتقرير  في القرآن الكريم، وعليها تتشكل مجموعة من الأدبيات وأسس العلاقة بين البشر، وعليه التنكر  لها هو تنكر للخلق أجمع، والوقوف ضدّها طريق للدمار والحروب بين المجتمعات والأمم، والحروب في أساسها إما هوى وطيش، أو تعصب لجنس أو فكر أو دين، أو حبّ للرياسة والمال والجاه، وهذه كلها ذمها القرآن الكريم.

ولنأتِ أولا إلى الأساس الأول وهو اختلاف الناس وتوجهاتهم، وهذا ناتج من عوامل عديدة، منها البيئة، والبيئة لها تأثير كبير في بناء توجه الإنسان، ولذا قال نوح عليه السلام في دعائه لربه سبحانه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} ، وهذا باعتبار البيئة، ولذلك جاءت الرواية: ” كل مولود على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه” ويدخل تبعا أو يمسلمانه باعتبار إسلام الجنس، والفطرة هي الصفاء الذي لا يعرف بها المولود شيئا، وإنما يكتسب بداية معارفه، ويكشف ما حوله من خلال أبويه ومن ثمّ البيئة من حوله.

وعليه لو نزلنا قليلا إلى المجتمع المسلم الجنسي لرأينا القاعدة تنطبق عليه أيضا، فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يبيضانه (إباضي) أو يسننانه (سني) أو يشيعانه (شيعي)، وهكذا الحال في المجتمع السني فأبواه يحنبلانه (حنابلة أو أهل الحديث) أو يأشعرانه (أشعري)، وكذا بالنسبة للمجتمع الشيعي، فأبواه يزيدانه (زيدي) أو يجعفرانه (جعفري) أو يأسماعلانه (إسماعيلي).

فالمجتمع الإنساني بطبيعته مليء بالتوجهات والأفكار والفلسفات المتبيانة دينيا واجتماعيا وسياسيا، وهذه يقررها القرآن بقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .

والجامع بين الناس هي الأسس المدنية التي يجتمعون عليها، والتي تحفظ توجهاتهم ودماءهم وأعراضهم، وعليها يكون التعايش المدني وفق القانون المرضي من الجميع، والذي به تتشكل المنظومة المجتمعية المدنية.

وهذا القانون يحفظ في ذاته حريات الناس في ممارسة طقوسهم وعباداتهم، وعدم إقصائهم في الدنيا والحكم عليهم في الآخرة، أما الإقصاء في الدنيا فيظهر من قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وأما الحكم في الآخرة فهو لله وحده سبحانه، هو العالم بعباده الخبير بهم: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} ، وبهذا لا تعارض بيين تعدد الأديان والتوجهات والتعايش المدني، فالاختلاف في التوجهات والأفكار في ذاته دليل على وجود الله تعالى، الواحد في كلّ شيء.

وما حدث بعد ذلك في الفكر الإنساني من إيجاد نصوص تلغي الآخر بداية من الخلاف السياسي، وتطور ذلك إلى الخلاف الكلامي والفلسفي والمنهجي، بل وحتى الفقهي العملي، ومن هذه النصوص ما أضيف إلى الرسول، ومنها ما أضيف إلى الصحابة أو التابعين أو العلماء والأئمة، تحت مظلة اتباع السلف، فهذه النصوص لا بدّ أن تحكّم بكتاب الله الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.

بل ومنهم من ألغى حتى بعض النصوص القرآنية الداعية إلى التعايش المدني، لتوافق النصوص الروائية الآحادية، أو أقوال من سلف، تحت مفهوم النسخ ونحوه، مثال ذلك إلغاء آية {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}  بدعوى النسخ مع دلالتها العظيمة والجليلة.

ثم إن أقوال الأئمة من الصحابة ومن بعدهم، ويدخل في هذا آل البيت وغيرهم، هؤلاء إن صح ما رُوِي عنهم، هؤلاء جميعا لا يعلون على النّص القرآني، فأقوالهم تحكّم بالنص القرآني لا العكس، من هنا سنستطيع فرز العديد من النصوص الجانبية، والآثار المروية، والتعامل معها وفق الرؤية القرآنية، لأنّ الله تعالى سيحاسبنا على ما قال، لا على ما قيل من أقوال البشر.

والقرآن كتاب هدى ونور ورحمة وبيان وفرقان، يسره الله للعالمين، وجعله سهل العبارة، واضح البيان، محكم التنزيل، وقال عنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، وهو كتاب مصدّق ومهيمن على ما سبق من الكتب، وعلى ما لحق من التراث إلى قيام الساعة.

Your Page Title