أثير - علاء شمالي
في الوقت الذي يحيي فيه العالم اليوم العالمي لحرية الصحافة بشعاراتٍ برّاقة وبياناتٍ دبلوماسية، يعيش الصحفي في غزة واقعًا مختلفًا تمامًا: واقعًا تُصبح فيه الكلمة جريمة، والكاميرا تهمة، والعمل الصحفي طريقًا إلى الموت وثمن الحقيقة يدفعونها بدمائهم.
ففي غزة، لا يُحاكم الصحفي، بل يُقصف، لا يُلاحق قانونيًا، بل يُدفن تحت الأنقاض، في أماكن أخرى، قد يُسجن الصحفي بسبب تقرير أو يُمنع من التصوير، أما في غزة، فالموت هو عقوبة الحقيقة، وكاميرا التصوير تُعامل كتهديد أمني، والميكروفون يُعتبر جبهة مواجهة.
الصحفي الغزي لا يخشى المحاكم ولا السجن، بل يخشى صاروخًا يستهدف منزله، أو قذيفة تمزّق جسده أثناء التغطية. في بيئةٍ تحوّلت فيها العدسة إلى خطر، والميكروفون إلى سبب للاستهداف، لا يملك هذا الصحفي ترف الحياد، لأنه ببساطة أحد ضحايا المأساة، وراويها في آنٍ واحد.
خلال 18 شهرًا من حرب الإبادة المستمرة على غزة، قتل الاحتلال الإسرائيلي 212 صحفيًا واعتقلت 48 آخرين، إضافة إلى إبادة 28 عائلة صحفية، فيما دمر 44 منزلاً لصحفيين وعائلاتهم، في وقت قدر فيه المكتب الإعلامي الحكومي خسائر القطاع الإعلامي في غزة بـ400 مليون دولار، إضافة لتدمير 143 مقار مؤسسة إعلامية.
الصحفي هدف عسكري
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تحوّلت أجساد الصحفيين إلى خرائط استهداف، فالطائرات لم تكتفِ بقصف المواقع العسكرية المزعومة، بل دكّت البيوت على رؤوس ساكنيها، ومنهم صحفيون كانوا نيامًا مع عائلاتهم، أو آخرون كانوا ينقلون مشاهد المجازر التي تمارس بحق المدنيين.
أسماء كثيرة، وجوه مألوفة، أصوات ألفها الشارع الفلسطيني والعربي، باتت اليوم صورًا معلقة على جدران النقابات والمؤسسات، بعضهم استشهد وهو يصرخ “أنقذوا الأطفال”، وآخرون لفظوا أنفاسهم الأخيرة ممسكين بكاميراتهم، كأنهم أوصوا بها قبل الرحيل، وآخرين انتهت حياتهم بين النيران محترقين على “البث المباشر”.
الكاميرا بدون مأوى
لم تسلم المؤسسات الإعلامية من آلة القتل الإسرائيلية. قُصفت مقرات قنوات وصحف ومحطات إذاعية، وأُحرقت كاميرات، ودُمرت أرشيفات، في محاولة لطمس الصورة ومحو الذاكرة.
وفي مذبحة متكررة، تم استهداف منازل الصحفيين مباشرة، وسط صمت دولي وخذلانٍ أممي. بيت الصحفي في غزة ليس مكانًا آمنًا، بل شبهة إعلامية، ومبررًا للقصف.
بين مهنة ورسالة
الصحافة في غزة ليست مجرد مهنة، بل فعل مقاوم، هي الكلمة التي تقاوم الطمس، والصوت الذي يعلو فوق الركام، والصورة التي تُعرض رغم كل محاولات التشويش.
ورغم الخطر، ما زال صحفيو غزة يخرجون كل صباح، يحملون الكاميرات لا الأسلحة، يرتدون السترات الصحفية لا الخوذات العسكرية، ويتنقلون بين الأنقاض ليكتبوا فصولًا جديدة من وجعٍ لا يُروى إلا من الأرض.
العالم .. يكتب بيانًا
في الثالث من مايو، يحتفل العالم بحرية الصحافة، لكنه ينسى أن بعض الصحفيين لا يملكون حتى الحق في الحياة. يُنشر تقرير، وتُطلق دعوة، وتُكتب مقالة، ثم يُطوى الملف.
لكن غزة، التي خُذلت كثيرًا، ما زالت تكتب الحقيقة بالدم، وتُبقي عدسة الكاميرا مفتوحة على جراحها، وتقول لكل من يملك ضميرًا:، “لا تطفئوا الضوء .. ثمة من يصوّر في الظلام كي تعرفوا”.
في غزة، يُكتب اليوم العالمي لحرية الصحافة بلونٍ آخر. ليس بالحبر، بل بالدم. ليس بالاحتفال، بل بالعزاء. ليس بالشعارات، بل بجثامين الزملاء.
ووسط كل هذا الموت، تبقى الصحافة الفلسطينية حية، تُقاوم النسيان، وتُذكر العالم بأن الحقيقة لا تموت، وإن مات حاملوها.