رصد - أثير
قد يكون صبر أوروبا على حرب حكومة بنيامين نتنياهو في غزة وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، قد بدأ ينفد بشكل ملموس، مع مؤشرات واضحة على تحوّل في المواقف الأوروبية إزاء السياسات الإسرائيلية، لا سيّما مع استمرار الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين.
وقالت صحيفة فايننشال تايمز في تقرير تحليلي رصدته “أثير”، إن الأسابيع الماضية شهدت تطورات لافتة، إذ فعّل وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بندًا يسمح بمراجعة شاملة لاتفاق الشراكة مع “إسرائيل”، وهي خطوة لم تكن مطروحة بشكل جدي في السابق، وفي موازاة ذلك، أعلنت بريطانيا وقف المحادثات الجارية بشأن اتفاق تجاري ثنائي مع تل أبيب، وهو تطوّر يعكس تغيرًا في المزاج السياسي العام.
كما اتخذ صندوق الثروة السيادي النرويجي خطوة أكثر حسمًا بإدراج شركة “إسرائيلية” على القائمة السوداء، بسبب دورها في إيصال الطاقة إلى مستوطنات تقع في مناطق محتلة بالضفة الغربية. وعبّر قادة دول غربية، من بينها فرنسا وكندا والمملكة المتحدة، عن استعدادهم للنظر في إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، إذا ما استمرت في خرقها للقانون الدولي.
التحوّل في الموقف الأوروبي لم يقف عند هذا الحد، إذ بدأت ألمانيا، التي لطالما اعتُبرت أبرز حليف أوروبي لإسرائيل، في توجيه انتقادات علنية لسلوك الحكومة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بعملياتها العسكرية في قطاع غزة، والسياسات التوسعية في الضفة الغربية.
واعتبرت الصحيفة إن هذه التحركات تمثل بوادر نقلة نوعية في السياسات الأوروبية تجاه ما وصفته بـ “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، خاصة في ظل تقارير دولية متواترة عن انتهاكات ترتكبها “إسرائيل” قد ترقى إلى جرائم حرب، كما جاء في تقارير صادرة عن هيئات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.
كما أن المقارنة المتكررة بين الحزم الذي أبدته الدول الأوروبية في التعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وسرعة فرضها لعقوبات اقتصادية ومالية شاملة ضد موسكو، وبين ترددها الواضح في اتخاذ مواقف مشابهة تجاه إسرائيل، حيث إن هذا التفاوت أثار تساؤلات حول مصداقية الغرب، واتّهامات بازدواجية المعايير في تطبيق مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.
لكن الصحيفة نبهت إلى أن الاختلاف في السياقات لا يمنع من اتخاذ مواقف صارمة تجاه إسرائيل، فالحجة الأخلاقية والقانونية لفرض العقوبات قائمة، خاصة عندما تتوفر أدلة موثقة على ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، واستخدام القوة المفرطة، وتوسيع المستوطنات بطريقة تنتهك قرارات مجلس الأمن.
من الناحية العملية، تملك أوروبا أدوات اقتصادية فعالة، يُمكن أن تُحدث تأثيرًا ملموسًا على الاقتصاد الإسرائيلي، فبحسب الإحصاءات الرسمية، تعتمد “إسرائيل” على أوروبا في قرابة نصف وارداتها من السلع، بينما تُصدّر أكثر من ثلث إنتاجها إلى الأسواق الأوروبية، كما أن قطاع الخدمات – خاصة في مجالات التكنولوجيا والسياحة – يرتبط بشراكات مباشرة مع شركات أوروبية.
ووفقًا للتقرير، فإن نحو ربع احتياطيات “إسرائيل” من النقد الأجنبي مستثمرة في أوروبا، ما يعني أن أي خطوة لتجميد تلك الأصول يمكن أن تربك أداء البنك المركزي “الإسرائيلي” وتؤثر في استقرار الأسواق المالية داخليًا، هذه الاحتياطيات يمكن أن تُستخدم مستقبلاً كتعويضات للفلسطينيين، في حال تم التوافق على إطار قانوني لذلك.
لكنّ العقبة الأبرز تظل في آلية اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي، حيث يُشترط الإجماع لإقرار العقوبات، وهو ما يُتيح لأي دولة عضو أن تُعطّل القرار.
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن التردد الأوروبي في التصعيد ضد “إسرائيل” لا يعود فقط لعوامل سياسية، بل أيضًا إلى ضغوط أمريكية مباشرة، خصوصًا مع بروز توتر بين واشنطن والمحكمة الجنائية الدولية، على خلفية قراراتها المتعلقة بالتحقيق في جرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية، كما أن بناء سياسة أوروبية خارجية متماسكة، تُطبّق فيها المعايير نفسها على جميع الأطراف، سيكون خطوة ضرورية لاستعادة المصداقية الأخلاقية، وتثبيت القانون الدولي كمرجعية غير قابلة للانتقائية.