مسقط - أثير
إعداد: د. راشد بن حمود بن أحمد النظيري، كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس
الأصل أن الإنسان مؤاخذ بألفاظه وعباراته، وعليها تجري الأحكام عليه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إليَّ، فأحكم بينكم، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من نار”، رواه الإمام الربيع، والبخاري، ومسلم.
يلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث الشريف أن قضاءه صلى الله عليه وسلم كان على نحو ما يسمع من الدعاوى والبينات لا على المقاصد والنيات مع أنه صلى الله عليه وسلم يمكن بوحي الله سبحانه وتعالى أن يقف على بواطن الأمور وما تكنه الضمائر، إلا أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر وقضى به؛ ليضع لنا الشرع قاعدة وركيزة أساسية، يسير على هداها، ويتبع خطاها كل حاكم بعده وقاض، وهي: أن الحكم بالظاهر من الأقوال والأفعال، والله تعالى يتولى سرائر العباد؛ استقرارا للمعاملات، وحفاظا على الحقوق، ومنعا من ظلم الحكام الغاشمين، وعلى هذا النحو قوله صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله”.
وقد بُنيت كثير من الأحكام الشرعية في العقود والتصرفات على هذه القاعدة: ومن ذلك ما نص عليه الإمام السالمي في جوهره، فقال:
ومن يقل لعبـده ياحــر ... ولم يرد عتـقا فلا يضـر
وإن يحاكمه فقيل يحكـم ... بمقتضى اللفـظ وما يلتزم
لأن ذاك ظاهـر الإطلاق... وعكسه دعوى على العتاق
والحكم بالظاهر لا بالقصد ... والقصد بين ربنا والعبد
وسُئل – رحمه الله: عمَّن غاب في البلد الكبير قدر شهر، وأتى بامرأة زعم أنها زوجته، هل يسع القادر السكوت عنه والتغاضي حيث لم تصح أنها زوجته إلا من إقراره وإقرارها؟ وإن ترك وسبيله ثم مات هل لهذه المرأة ميراث منه؟ فأجاب بقوله: “نعم يصح التغاضي عنه، وإن تقارَّا بالزوجية حكم لها بذلك في الظاهر، وأعطيا أحكام الزوجية من ميراث وغيره، ولولا ذلك لضاق الخناق، وهيهات الحنفية بيضاء سهلة، أمرنا أن نأخذ بالظواهر، ولا ننقب عما وراءها، وحسابهم على الله”.
وفي جواب له، عمّا قيل إن من نوى واحدة في الطلاق، واللفظ يدل على الثلاث أن الطلاق يقع واحدة، قال: “هذا فيما بينه وبين الله دون الحكم بالظاهر، فإنها إذا حاكمته عند القاضي حكم عليه بمقتضى لفظه، ويصح أن يكون ذلك في الحكم أيضا، وذلك إذا كان الحاكم يرى أن الطلاق لا يقع إلا بالنية واللفظ معا فإنه على قياس قوله يكون الحكم بينهما بالأيمان، وذلك أن يجعله مصدقا فيما يدعيه من مخالفة النية للفظ، وتتعذر البينة لأن السرائر لا يطلع عليها إلا الله، فهنا يفرض لها اليمين إذا شاءتها، فهذه صورة الحكم على هذا القول، والحكم بالقول الأول أظهر”.
وقال سماحة الشيخ الخليلي، فيمن أوصت بجميع تركتها لبعض ورثتها من ضمان لزمها، مع أن لها بنات يأخذن بالشرع ثلثي تركتها، وما أرادت الموصية بذلك إلا حرمانهن من الإرث؟ قال: “بما أنها أوصت بذلك من ضمان لزمها فالوصية ثابتة، وإن كانت أرادت بما ذكرت التدليس فالله أولى بها، وإنما نحكم بالظاهر، والظاهر ثبوت الوصية”.
أما الأجر والثواب أو الإثم والعقاب فمرده إلى النية، والله عليم بواقع النيات، إذ “صورة الفعل وهيئته لا تدل على طاعة ولا معصية، إنما يصير الفعل طاعة أو معصية إذا أضيفت إليه النية، الدليل على ذلك قول الله تعالى عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان: 8 - 9)، فمدحهم الله بإنفاقهم أموالهم إذا كانت المقاصد لله عز وجل، وقال عز وجل في موضع آخر: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ} (النساء:38) فذمهم بالإنفاق؛ لأنهم لم يقصدوا الله جل ذكره بها، وقد استوى الإنفاق في الظاهر، هذا منفق وذلك منفق، حصل أحدهما طائعا بالإخلاص والقصد لله عز وجل، والآخر عاصيا لتعريه من هذه الحال مع تساويهما في الإنفاق”.
والخلاصة أن هناك أمرين:
أولهما: حكم الحاكم، وهذا يعتمد على ما ظهر من الألفاظ من المعاني الواضحة.
ثانيهما: الأجر والعقاب الأخروي، وهذا يعتمد على النيات والمقاصد؛ إذ الله عليم بما تكنه النفوس، وما تضمره القلوب.
ومع هذا، فإن الشرع لم يهمل المقاصد والنيات، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور: “إنما الأعمال بالنيات”، ومُفاد هذه الحديث الشريف في باب العقود (بالمعنى العام) والتصرفات أن النية إن ظهرت وبرزت للعيان وجب الالتفات إليها، وإن توجهت إرادة العاقدين إلى أمر ما لزم القاضي الحكم بها، وإلزام الطرفين بها، ولم تعد النية – حينها- خفية لا يمكن الوقوف عليها بل هي أمر ظاهر، والحكم بها حكم بالظاهر، وفي ذلك تحقيق للعدالة بين الطرفين لتوجه إرادة المتعاقدين إلى ما أضمراه، يقول الإمام السالمي: “النيات والمقاصد عليها مدار كثير من الأحكام”، ويقول: “الألفاظ في حق المتكلم مقيدة بالمقاصد”، ويقول المفتي الخليلي: “الإسلام يعتبر المعاني والمقاصد لا الألفاظ والأسماء”، ومن مبادئ المحكمة العليا رقم 15 (-س ق) 20: “لا عبرة بمسميات العقود، وإنما العبرة بحقيقة الواقع، فلا فرق بين أن تكون التسمية هبة أو تنازلا أو بيعا، ما دام سببها هو المقابل المالي، فالعبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني”.
على أن الوقوف على النيات والمقاصد في التصرفات والعقود يكون من خلال السياق والقرائن الحالية والمقالية، فلو باع شخص هاتفه لزيد، ولم يكن زيد يحمل في محفظته نقودا، فقال للبائع: خذ هذه الساعة أمانة عندك، فالمشتري تلفظ أن الساعة أمانة، ومن المتقرر أنها لو كانت مجرد أمانة لجاز له أن يردها قبل دفعه ثمن الهاتف، وهذا غير مراد للطرفين قطعا، وإنما مقصد المتعاقدين وإرادتهما متوجهة إليه أن الساعة رهن في يد البائع حتى يوفي المشتري الثمن وإلا باعها البائع، واستوفى حقه ورد الباقي لصاحبه، وهذا هو معنى قول أهل القواعد: “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”.
ومن ذلك- أيضا:
أولا: لو قال شخص: وهبتك هذه الساعة بريالين، فإن هذا العقد ليس عقد هبة، وإن كان اللفظ المستخدم في العقد عقد هبة بل هو عقد بيع، والقرينة على الباطن واضحة في قوله: “بريالين”؛ إذ من المعلوم أن البيع من عقود المعاوضات، أما الهبة بلا مقابل فمن عقود التبرعات، والعبرة بما توجهت إليه إرادة الطرفين، وهو البيع لا الهبة المعهودة، وكذا الشأن لو قال: أعرتك هذا الكتاب بخمسة ريالات، فإن هذا بيع، ولو استخدم البائع لفظة “إعارة”؛ إذ الإعارة تمليك منفعة بدون عوض، ولو قال: بعتك هذه الدار لتسكنها سنة كان العقد عقد إجارة.
ثانيا: لو قال ولي المرأة لخاطبها جوزتك ابنتي فأجاب جبلت، فالأصل أن لعقد الزواج ألفاظا تدل عليه وهي زوجتك أو أنكحتك، ويكون جواب الزوج نعم أو قبلت أو رضيت أو وافقت، وليس من هذه الألفاظ “جوزتك” و“جبلت” غير أن النية معلومة، والمقصد متوجه إلى إنشاء عقد الزواج والموافقة عليه بدلالة الحال وجريان العرف، فلزم أن يكون العقد صحيحا؛ إعمالا لقاعدة “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”، ورد في المادة 17 من قانون الأحوال الشخصية العماني: “ينعقد الزواج بإيجاب من أحد المتعاقدين وقبول من الآخر صادرين عن رضا تام بألفاظ تفيد معناه لغة أو عرفا”.
ومن هذا الباب، ما ذهب إليه بعض العلماء من صحة الزواج بلفظ الخطبة أو الهبة ونحوهما؛ تعويلا على القرائن، واحتكاما إلى الأعراف؛ لأن المقاصد متوجهة إلى المتعارف عليه، “والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”، يقول الإمام السالمي: “المعتبر في المجاز نوع العلاقة لا شخصها، ومن ها هنا قال بعض أصحابنا؛ وهو موسى بن علي في رجل أنكح رجلا امرأة، فقال: أشهدوا أن فلانا أدى إلى فلانة كذا وكذا، وعلى ظهره كذا وكذا، وقد أعطيناه فلانة، أوقد وهبنا له فلانة اسم المرأة، قال موسى: وهو جائز، وقال أبو عبد الله محمد بن محبوب -رضي الله عنه: إن قال المزوِّج: قد زوجتك، أو ملكتك، أو أخطبتك، أو أنكحتك فكل ذلك جائز، وقال أبو المؤثر: أما قوله: أنكحت، أو أملكت فثابت، وأما قوله: أخطبت فإن جاز بها لم أفرق بينهما، وإن لم يكن جاز بها فأحب إليَّ أن يجدد النكاح، فهذا أبو موسى بن علي -رضي الله عنه- أجاز في التزويج أعطيناه فلانة، ووهبنا له فلانة، وأبو عبد الله أجاز في التزويج أملكتك، وأخطبتك، وأجاز أبو المؤثر في التزويج أملكتك، وتوقف في أخطبتك، وجميع هذه الألفاظ مجاز عن لفظ أنكحتك، وذلك أن لفظ الهبة، والعطية، والتمليك، إنما وضعت لملك لرقبة، ووضع النكاح لملك المتعة، وملك الرقبة سبب لملك المتعة، ولما كان ملك الرقبة متعذرا في الحرة صرفت هذه الألفاظ إلى ملك المتعة، فهي من إطلاق اسم السبب على المسبب، وأما أخطبتك فموضوع للكلام المقدم على التزويج المؤذن بإجابة ولي المرأة للزوج، يقال: خطبت فلانة من فلان فأخطبنيها، فهو سبب أيضا للتزويج، وإطلاقه على النكاح من إطلاق السبب على المسبب، لكن السببية هنا أضعف منها في الألفاظ الأُوَل، فلهذا توقف فيه أبو المؤثر -رحمه الله- ولم يتوقف في أملكتك؛ لما تقدم، وعلى هذا المذهب الحنفية”.
ثالثا: يقول سماحة المفتي الخليلي في جواب له عن حكم زواج المسيار: “قبل أن أجيب عن سؤالك، أحب أوضح أن هذا المصطلح “زواج المسيار”هو ليس مصطلحا شرعيا حتى يكتفى بذكر اسمه لمعرفة حكمه، وإنما هو مصطلح جديد، لا يمكن أن يحكم عليه من لفظه؛ لأن الإسلام يعتبر المعاني والمقاصد لا الألفاظ والأسماء، ولأجل ذلك لا بد أن تتعرف على هذا النوع من الزواج، وما هي شروطه وكيفيته؟
وعلى كل حال فقد سبق الجواب عن الشروط التي لا يمكن للزواج أن يصحَّ بدونها، ولا بد من معرفة أن الزواج في الإسلام شرع ليكون سببا للسكن والاطمئنان للرجل والمرأة، ومراعاة للمودة والرحمة، وعروة يرتبط فيها مصير الرجل بمصير المرأة ومصير المرأة بمصيره، بل إنه رباط جماعي بين أسر الزوجين، يقول تعالى مبينا بعض مقاصد الزواج: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فالزواج بهذا ليس مجرد وسيلة لسفح الماء بل هو تحقيق لمعاني الإحصان والعفاف والسكون، وقد ذكر الحق في كتابه هذا الملحظ، فقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، وفي حق النساء قال: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }، يُضاف إلى هذا كله أن الزواج يحمِّل الرجل مسؤولية أهله وولده، فهم أمانات لا تنفك من عنقه، وهو مسؤول عنهم أمام الله تعالى يوم القيامة، وكما أن الرجل مسؤول عن المرأة، فإن المرأة مسؤولة عن حال زوجها، وكل منهما مأمور بحسن العشرة للآخر، ولأجل كل هذه الاعتبارات نرى سد هذا الباب، والمحافظة على قدسية الزواج وأهدافه وغاياته“.
رابعا: من المتقرر عند كثير من الفقهاء في عقد المضاربة أن اشتراط رب المال على المضارب الربح كله يجعل العقد عقد إجارة، فيستحق المضارب (العامل) أجرة المثل على عنائه، ولم يكن العقد عقد مضاربة، وإذا رضي المضارب العمل بلا مقابل كان العقد عقد إبضاع، فالإبضاع هي العمل في مال الغير بلا مقابل، وإذا اشترط المضارب (العامل) أن يكون الربح كله له كان العقد عقد قرض لا مضاربة؛ “إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”.
خامسا: الوقف على الأولاد بعد الممات عقد وصية يُعطى أحكام الوصايا لا الأوقاف، يقول الإمام السالمي:
وباطل شرط على خـلاف ... ما يقتضيه الشرع في الأوقاف
كمـن يوقـــفن للأولاد ... من بعــد مــوته بلا استناد
لأنه مــثل وصــية إلى ... وُرَّاثة لذاك قـــلنا بطـــلا
وإن يكن مستندا من بعد أن ... يفنَوا إلى باب من الخير حسـن
فقيــل باطـل كمثل الأول ... لما بـه مــن أثــرة التنفل
وقيــل ثابت لأنه اســتند ... للبِر بعــد أن فنى ذاك الولد
قلت ولكن جــعله للبـِر ... مــن بعده يشبه نوع مكــر
لم يقصد البر ولكن قصـدا ... يؤاثرن مــنه ذاك الولــدا
فالبـــر حيـلة بها تسترا ... كــي لا يقال إنه قد غيـرا
وإنما الأمور بالمقاصـــد ... والحال شاهــد وأي شاهد
ومما تقدم يتضح أن الأصل في العقود أن تنعقد بأي لفظ دل على المراد، على أن تكون القرينة على المعنى والمقصد جلية واضحة واللفظ يحتمله، أما إذا كان المقصد أو الإرادة خفية لا يمكن الوقوف عليها؛ لعدم القرينة أو لضعفها، مع وضوح المعنى الظاهر وبروزه فإننا نحتكم إلى الأصل، وهو اعتبار ظاهر الألفاظ والمباني؛ لأن صرف اللفظ عن ظاهر دلالته تأويل، والتأويل لا يقبل إلا بدليل واضح أو هو نقل للفظ من الحقيقة إلى المجاز وهو لا يقبل إلا بعلاقة وقرينة أو جريا على المعنى العرفي بعد إثبات العرف واستقراره، يقول ابن بركة: “ونحن على ظاهر الآية إذا لم نجد دليلا يدل على خلاف الظاهر”، ويقول الإمام السالمي: “وما أحسن التمسك بالظاهر، وما أبعده من التكلف حيث أمكن الأخذ به، ولم يقم على التأويل دليل أقوى من الظاهر”، ويقول العلامة القنوبي في سؤال أهل الذكر: “وليس لأحد أن يعدل عن الأخذ بالظاهر إلا إذا دل دليل آخر على صرف ذلك الظاهر عن ظاهره”.
وعلى ذلك لو قال: بعتك هذه الدار، فقال المشتري: قبلت، ولم يذكرا الثمن وسكتا عنه، فإنه لا يقال إن العقد عقد هبة بل هو عقد بيع باطل؛ لفقده ركنا من أركانه، أما لو قال له: بعتك هذه الدار بلا مقابل كان العقد هبة؛ لظهور القرينة وبروزها.
هذا، وفي الأخذ بالمعاني والمقاصد في العقود والتصرفات إذا ما لاح وجهها قطع لحبال الوقوع في المفاسد والولوج إلى الربا وشروره، ولهذا أمثلة كثيرة:
أولا: بيع الخيار/ بيع الوفاء: وهو البيع الذي يشترط فيه البائع على المشتري أن يرد إليه السلعة إذا ما رد الثمن، جاء في الوثيقة التي أمضاها الإمام محمد بن إسماعيل وعلماء مصره وعصره: “قد قيل في النيات، هن المهلكات وهن المنجيات، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى”، وقال: “نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله”، وقد صح عندنا أن المراد ببيع الخيار الثمرة، وإنما جعلوا هذا طريقا فيما زعموا للتغطية على تحريمها، والدليل على فساد هذا إن كان هذا البيع وقع على النخلة وكانت الثمرة لربها، وإن كان المراد به الثمرة، فقد وافق هذا البيع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أجبى فقد أربى”، فهذا أحد وجوه الفساد في ذلك، والوجه الثاني مثل هذا كمثل رجل تزوج امرأة ثم طلقها ثلاثا فتزوجها متزوج لإحلالها لزوجها الأول، وهذا مما قال بفساده المسلمون على الزوج الأول والثاني، والوجه الثالث كرجل وافق رجلا على شراء حب أو تمر عنده المكوك بمكوكين، تمرا بحب أو حبا بتمر ثم أشهد على نفسه أنه بدراهم فهذا بيع أيضا في السريرة حرام، قال: فهذا قولنا في بيع الخيار”.
وقال الإمام السالمي فيمن سمَّى بيع الخيار رهنا: “لا يؤخذ في مثل هذا بفلتات لسانه، وإنما يعامل فيه بمقتضى العرف والعادة، ولا خير في التسمية، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا اتحد المقصود، ومن قواعد الفقه الشهيرة “أن الأمور بمقاصدها”، وفي الحديث “وإنما لكل امرئ ما نوى””.
ثانيا: بيع العِينة، وهو: أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها إلى البائع نفسه بثمن أقل يدفعه حالا، كأن يبيع زيد لعمرو هاتفا بمائة ريال مؤجلة ثم يبيعه عمرو إلى زيد بثمانين ريالا نقدا (حالا)، ورد في مدونة أبي غانم: “وعن رجل باع من آخر متاعا بنظرة ثم اشتراه منه بنقص، وقد كانا علما أنهما سيفعلان ذلك؟ قال: لقد أثما، وهما في الإثم سواء”؛ وذلك أن الهدف من هذا البيع هو الحصول على القرض، فهو لا يعدو أن يكون حيلة يتذرع بها المتعاقدان للوصول إلى القرض الربوي؛ إذ يتفقان على عقد صوري تُوسّط فيه سلعة، تعود في النهاية إلى صاحبها، ولذلك فالحقيقة – في المثال السابق- أن زيدا مقرض لعمرو ثمانين ريالا على أن يردها مائة ريال مؤجلة، وهو عين الربا المحرم شرعا، يقول العلامة الخليلي عن العينة: “وسُميت بالذرائع لأن الناس اتخذوها ذريعة من أجل التوصل إلى المعاملات الربوية المتفشية بطرق مختلفة، طرقٍ قد يحسبها الإنسان في الظاهر آخذة وجها من الوجوه الشرعية، ولكنها في الحقيقة ما أُريد إلا الربا”.
أما بيع التّورُّق أو التورق البسيط أو التورق الفردي فهو قريب من بيع العينة غير أن المشتري يبيع السلعة لشخص آخر بثمن أقل نقدا، والهدف منه هو الحصول على النقد(الوَرِق: الفضة) لا السلعة، ولذلك سُمي بالتورق، وهناك سمي بالعينة؛ لأن المشتري يبتغي العين أي النقد.
وعندما كان في بيع التورق ثلاثة أشخاص، ولا يدفع البائع الأول شيئا إلى من يريد الحصول على النقد، ولا تعود السلعة إليه، فإن الشبهة تضعف أو تضمحل، فلا قرينة على الربا، ولذلك قال كثير من الفقهاء: إن التورق البسيط مباح؛ جريا على أصل الإباحة في البيوع وحكما بالظاهر، ولا يصح القياس على العينة؛ للفرق بينهما، فالعينة قرض ربوي، وما السلعة إلا حيلة، وفي التورق عقدان مستقلان تماما، ولا عبرة بقصد الحصول على النقد؛ إذ البيع الحلال المذكور في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}البقرة 275، قد يقصد منه البائع الحصول على النقد، والمشتري قد يشتري من أجل الاستعمال والانتفاع، وقد يشتري من أجل الحصول على النقد فيؤجر المبيع أو يعيد بيعه بثمن مساو أو أقل أو أكثر، ولا مانع من الشراء بثمن مؤجل ثم بيعه نقدا بأقل من الثمن المشترى به، وذلك من جهتين:
الأولى: أن البيع بأقل من الثمن المشترى به جائز شرعا؛ إذ لا دليل يحظره.
الثاني: أن البيع بثمن حال يختلف عن البيع بثمن مؤجل(نسيئة)، ومن المتقرر أن للزمن ثمنا، فالمشتري اشترى بالنسيئة فكان الثمن أكثر، وباع حالا فكان الثمن أقل.
ثم إن التورق شبيه بالمخرج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لعامله على خيبر عندما كان يشتري التمر الجيد بالصاع والصاعين: “بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا”، فالمحرم الجمع بينهما في عقد واحد، وأما التفريق بينهما في عقدين مستقلين فلا بأس بذلك، وإن كانت النتيجة واحدة، وهي الحصول على التمر الجيد.
ثالثا: الودائع في البنوك التقليدية قروض، وأي فائدة عليها تعد ربا؛ وذاك أن الوديعة هي المال الموضوع عند الغير لحفظه، ومقتضى ذلك أن المودَع في عقد الوديعة يبقى في ملك المودِع، لا يخرج عن ملكه، ويُرد بعينه، ولا يجوز للمودَع لديه أن يستغله في أغراضه الخاصة واستثماراته، ويبقى غرمه ومغنمه على صاحبه المودِع، ويد المودَع لديه يد أمانة لا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر، وما يجري في البنوك التقليدية بخلاف هذا تماما، فبعد تسلم البنك النقود وقبضها تدخل في ملكه، فيستخدمها وعليه ضمانها، فلو تلفت من غير تعد ولا تقصير منه كان ضامنا لها، ويرد مثلها لا عينها، وعلى هذا التنزيل لا يكون هذا العقد عقد وديعة بل عقد قرض، فـ“العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني“، فهذه مقتضيات أو آثار عقد القرض لا عقد الوديعة، جاء في المادة 496: “القرض عقد تنتقل بمقتضاه ملكية مال أو شيء مثلي آخر على أن يرد المقترض عند نهاية القرض مثله مقدارا وصفة ونوعا”.
وبناء على ذلك، فإن البنك مقترض وصاحب الحساب مقرض، وهو ما قضى به قانون المعاملات المدنية العُماني في المادة 706: “1. لا يجوز للمودع لديه أن يستعمل الوديعة أو يرتب عليها حقا للغير بغير إذن المودع فإن فعل وهلكت أو نقصت قيمتها كان ضامنا.
2. إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع لديه مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا“.
وعلى هذا القول مجمع الفقه الإسلامي، جاء في قراره رقم: 90 / 3 / د 9: “الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية، هي قروض ربوية محرمة سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية)، أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير”.
وللقاعدة تطبيق واسع في المعاملات المعاصرة، وعليها استثناءات عدة، يرجع في ذلك إلى مظانها ومحالها، والجامع لما سبق أن الأحكام تبنى على الظاهر إلا إذا صرفها عن ذلك صارف معتبر، ومن عوّل على الظاهر؛ لعدم الصارف عن الحقيقة مع أن الواقع على خلافه لم يأت شططا، ولم يرتكب حُمقا، ولم يكن آثما؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، “وقد اجتهدوا وفعلوا ما أمرهم الله به من الظاهر”، والله الموفق.
أهم المصادر والمراجع:
- ابن بركة، التعارف، ص77، 80.
- ابن بركة، الجامع، ج1، ص257، 256.
- ابن عبد البر، الاستذكار،ج7، ص92.
- أبو غانم الخرساني، غانم الخراساني، المدونة، ص625.
- اطفيش، شرح النيل، ج10، ص321.
- السالمي، شرح الجامع الصحيح، ج3، ص243.
- الشماخي، الإيضاح، ج4، ص10، 11.
- عبد الناصر حمدان بيومي، أثر قاعدة: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني في العقود المالية، https://2u.pw/4Mysg
- القاري، مرقاة المفاتيح، ج6، ص2441.
- القسطلاني، إرشاد الساري، ج10، ص240.
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي.
- محمد بن حمد عبد الحميد وسيرين بنت عيسى الباز، العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، دراسة تحليلية مقارنة بالقانون المدني الأردني.
- محمد حسن عبد الغفار، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه- العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
- الموسوعة الفقهية الكويتية.