فضاءات

”أوكلما اشتهيت اشتريت؟!“، حين تتصارع شهوة الشراء مع حكمة الزهد

التسوق

أثير- د. نسيمة بنت محمد المشيخية باحثة تربوية

في عالم تتسارع فيه الإعلانات، وتُروّج فيه الأسواق للاستهلاك كحق مكتسب لا يُرد، يقف صوت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبر الزمان، ليسألنا بلغةٍ حاسمة:

“أوكلما اشتهيت اشتريت؟!”

ليست مجرد جملة، بل مبدأ تربوي واقتصادي ونفسي متكامل، يستبطن رؤية عميقة في تربية النفس، وإدارة الرغبات، وترشيد الإنفاق.

ففي زمن تغمرنا فيه الإعلانات والرغبات، يصبح ضبط الشهوة مهارة، وتأجيل الإشباع فنًّا.

تقول الرواية بأنه في أحد الأيام، دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أحد أصحابه، فوجده قد اشترى قطعة لحم غالية الثمن. بسؤال بسيط، قال له الرجل: “اشتهيته فاشتريته.” فكان رد عمر رضي الله عنه عميقًا وبليغًا:

“أوكلما اشتهيتَ اشتريت؟ أما تخاف أن تكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}؟” (سورة الأحقاف، الآية 20)

فقد كان رضي الله عنه من الزاهدين في الدنيا، وكان يربي أبناءه وأمته على الاعتدال والقناعة واعتراضه لم يكن لشراء اللحم، بل لأنه لا يريد أن يكون الإنسان عبدًا لشهواته، كلما اشتهى شيئًا سعى إليه دون تفكر أو حاجة، والآية التي استشهد بها تتحدث عن حال الذين استوفوا نصيبهم من المتع في الدنيا، ولم يبقَ لهم شيء عند الله يوم القيامة فقد خشي رضي الله عنه أن يكون التوسع في الملذات دون حاجة واتباع الشهوات باستمرار سببًا لأن يُحرم العبد من الأجر الأخروي. كما حُرِم أولئك الكفار الذين “أذهبوا طيباتهم” أي استهلكوها كلها في الدنيا ولم يدخروا شيئًا للآخرة.

فقدم لنا الفاروق موعظة بالغة تقول :" لا تجعل شهواتك في الدنيا تُذهب عليك الأجر في الآخرة" ، وهو نهج التوازن والاعتدال، والذي يعد أحد المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية، فقد قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143)

“أوكلما اشتهيتَ اشتريت؟"

تلك الكلمات ليست مجرد اعتراض على شراء لحظة شهوة عابرة، بل دعوة للتفكير العميق في طبيعة العلاقة بين الإنسان ورغباته، وتحذير من أن تُسيطر الشهوات على حياته فتقوده إلى غفلة عن نفسه وأهدافه.

فمتى تتحول شهوة الشراء من رغبة إلى عبودية؟

لا شك أن الشهوة والرغبة جزء طبيعي من الطبيعة البشرية، وهي ضرورية للحفاظ على التوازن النفسي والبدني. لكن المشكلة تبدأ حين تتحول الرغبة العفوية إلى دافع مهيمن يدفع الإنسان للاستهلاك المفرط بلا وعي أو حدود، خصوصا في عالمنا اليوم، الذي يسهل الوصول إلى كل ما نشتهي من بضائع، وخدمات، ومتعة سريعة، وهو ما يجعلنا أكثر عرضة لقرار الشراء اللحظي الذي قد لا يتماشى مع حاجاتنا الحقيقية.

في علم النفس، يطلق على هذه الظاهرة “الشراء العاطفي” (Emotional Buying) حيث تتحكم العواطف المفاجئة في قرار الشراء دون تدخل العقل.

كثير منا يعرف إحساس الندم بعد الشراء نتيجة لهذا التصرف، هنا يأتي الهدي الذي أورده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الزهد المعتدل؛ والنهج المتوازن الذي يعني: الاستمتاع بالنِّعم دون أن نعبدها، والانتفاع بالدنيا دون أن ننسى الآخرة.

أي لا حرمان ولا إسراف… بل شكرٌ، واعتدالٌ، وهدفٌ سامٍ.

ولأن الحكمة الخالدة لا تبلى، يساند العلم الحديث الهدي القديم لتكشف لنا علوم النفس السلوكي والاقتصاد العصبي اليوم أن ما كان يفعله عمر بن الخطاب تُعد سلوكًا نفسيًا راقيًا، وله أساس قوي في الدراسات النفسية والعلم العصبي الحديثة، حيث يعد ضبط النزوات — هو عين ما توصي به أحدث الدراسات في تأجيل الإشباع (Delay of Gratification)، كمهارة تؤسس للنجاح الشخصي والمالي والعاطفي، حيث أفاد هذا النهج العلمي فكرة “مهلة الانتظار” (The 24-Hour Rule or Delay Gratification)

وهي مهارة تُعرف في علم النفس باسم: “تأجيل الإشباع” أو “Delay of Gratification”

أي القدرة على تأخير رغبة أو شهوة آنية (مثل الشراء أو الأكل) من أجل قرار أكثر وعيًا ومنفعة لاحقة، فلم تكن حكمة عمر رضي الله عنه منفصلة عن حقائق نفسية معاصرة؛ فقد أثبتت دراسات كثيرة منها تجربة “مارشميلو” الشهيرة – Walter Mischel (1960s)

أُجريت هذه التجربة على أطفال: عرضوا عليهم قطعة مارشميلو وقالوا لهم: “يمكنك أكلها الآن، أو الانتظار وستحصل على اثنتين.” وكانت النتائج أن الأطفال الذين صبروا وتأخروا في الإشباع، تبيّن لاحقًا أنهم: (أكثر نجاحًا أكاديميًا، وقدرة على التحكم في الذات، وأفضل في إدارة المال والعلاقات)

كذلك، تنصح الكثير من مدارس إدارة المال والاقتصاد السلوكي بـ “قاعدة الانتظار” قبل الشراء: إذ ينصح أن تؤجل قرار الشراء 24 إلى 48 ساعة لتقييم الحاجة الحقيقية والابتعاد عن الشراء العاطفي.

فكيف نتمكن من ممارسة هذا الإنفاق الواعي على نهج عمر بن الخطاب رضى الله عنه؟

أولا: تأمل الرغبة: حين ترغب في شراء شيء، توقف لدقائق أو أيام، واطرح على نفسك أسئلة مثل:

• هل هو حاجة فعلية؟

• هل يمكنني الاستغناء عنه أو تأجيله؟

• كيف سيؤثر هذا الشراء على ميزانيتي وأهدافي؟

ثانيا: تذكّر الهدف الأكبر: استرجع أهدافك المالية والشخصية، وما إذا كان هذا الشراء يتماشى معها.

ثالثا: تحكم في العواطف: لا تسمح للرغبات العابرة بأن تسيطر على قراراتك، وأعطِ عقلك فرصة للتقييم.

قد يبدو هذا السلوك للوهلة الأولى علامة على الحرية المالية أو الاستمتاع بالحياة، لكنه يخفي خلفه آثارًا تتسلل بهدوء إلى أعماق النفس والعقل، وتعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته، بماله، وبمحيطه.

فعلى الصعيد النفسي، يضعف هذا النمط قدرة الإنسان على التحكم في شهواته، ويؤدي به تدريجيًا إلى الإدمان السلوكي، حيث يصبح الإنفاق وسيلة للهروب من القلق أو الملل، لا تلبية لحاجة حقيقية. وما إن تُلبّى الرغبة حتى تولد أخرى، في دوّامة لا تهدأ، تُضعف الإحساس بالرضا وتجعل النعمة عادية لا تُرى.

أما ماليًا، فإن هذا السلوك يفتح بابًا لا يُغلق نحو الاستنزاف، حيث تُستهلك المدخرات بلا هدف، وتتآكل خطط المستقبل أمام نزوات اللحظة. وقد يجد الفرد نفسه، دون أن يشعر، يشتري ما لا يحتاج، بأموال لا يملك، ليُرضي رغبات لا تنتهي.

زمنيًا وذهنيًا، يستهلك هذا النمط من العيش الطاقة الذهنية والوقت، حيث يصبح البحث عن الجديد هاجسًا، والاحتياج للشراء عادةً لا واعية. ويغيب بذلك التركيز عن الأهداف الحقيقية، كالنجاح، التعلم، أو السكينة الداخلية.

أما من الزاوية الروحية، فإن الإغراق في تلبية كل شهوة يبلّد الإحساس، ويُضعف التزكية الداخلية التي تزدهر بالصبر والتأني. والإنسان الذي لم يربِّ نفسه على الكفّ عن المباح، سيجد نفسه أكثر عرضة للوقوع في ما هو محظور.

وهكذا، فإن الإنفاق الواعي لا يعني الحرمان، بل يعني أن تكون أنت من يختار، لا شهواتك.

أن تملك قرارك، لا أن تُستعبد لرغباتك.

أن تعيش بتوازن يليق بكرامتك، لا بانسياق يُضعفك ويُفرغك

فالإنفاق الواعي ليس فقط مسألة مال، بل هو أسلوب حياة، وفلسفة في تحقيق التوازن بين لذة اليوم ونجاح الغد

في نهاية المطاف، يبقى الإنسان بين خيارين: أن يكون عبدًا لشهواته، فيتبع كل رغبة عابرة دون تفكير، فتذوب فيه قيمة المال وتتلاشى راحة النفس، أو أن يكون سيدًا لنفسه، يحكم عقله وقلبه، فيمارس الإنفاق الواعي بوعي وحكمة.

إن ما تعلمناه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن العلم النفسي الحديث هو أن الحكمة ليست في الامتناع عن كل متعة، بل في معرفة متى وكيف نلبي حاجاتنا دون أن نغرق في بحر الشهوات.

ففي عالم يُغريك بكل شيء، من إعلان يلمع إلى رغبة تتسلل في لحظة فراغ، يصبح سؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أكثر حضورًا من أي وقت مضى:

“أوكلما اشتهيتَ اشتريت؟”

لم يكن هذا التساؤل رفضًا للنعمة، ولا دعوة للفقر، بل كان نداءً للوعي…

ألا تجعل من شهواتك قائدًا، بل تابعًا لحكمةٍ تسكن قلبك، فليس الزهد حرمانًا… بل حرية، وليس كبح الرغبة كبتًا… بل قيادة.

Your Page Title