أثير - زاهر بن حارث المحروقي
صلينا أنا ورفيق رحلتي إلى زنجبار سيف بن سعود المحروقي صلاتي المغرب والعشاء في مسجد ”فروضاني“. بعد خروجنا من المسجد وسلامِنا على شاب عُماني يبيع الفوشار (”الفرّاخ“ كما نسميه في لهجتنا العُمانية) يدعى حمد الغيثي، لمحتُ شبحًا نورانيًّا يمشي من حديقةٍ بين بيت العجائب وبيت الساحل، حيث كان قصر بيت الحكم قبل أن تدمره بريطانيا عام 1896، احتجاجًا على تولي السيد خالد بن برغش الحكم دون إذنها. سألتُ سيف: ”هل ترى ما أراه؟ أم أني أتخيّل شيئًا ليس له وجود؟!“. أجاب: ”ما تشاهده حقيقة وليس خيالًا“. قلتُ: ”إذن علينا أن نحث الخطى لنتبيّن حقيقة ما نرى“. اتجه الخيال النوراني إلى المقبرة السلطانية القريبة، ووقف أمام قبور بعينها يقرأ الفاتحة ويدعو الله للنائمين في تلك القبور.
اقتربتُ منه فإذا هو شاب في مقتبل العمر، قصير القامة، أبيض اللون مع لحية سوداء كثة وعلى رأسه العمامة السعيدية، ملامحُه توحي بالطمأنينة والسكينة. وعندما رأى اندهاشي وأنا أركز على ملامح وجهه، بادرني بالكلام فورًا دون أن أساله: ”نعم أنا خالد بن برغش بن سعيد بن سلطان. اعتادتْ روحي بين فترة وأخرى أن تزور هذا المكان من العالم الآخر، لتشاهد ما أُخفي عني من لحظة الهجوم البريطاني البربري عليّ وعلى قصر الحكم. ذلك الاعتداء الذي أودى بحياة أكثر من خمسمائة روح بريئة، وكل جرمها أنها أرادت الحرية والاستقلال، ورفضت التبعية والهيمنة البريطانية“.
كانت أصوات الباعة في ساحة ”فروضاني“ تتداخل مع هدوء المقبرة. قلتُ: ”لم أتوقع أن ألتقي بك هنا! كيف ترى الأحداث التي جرت بعد أن تصدّيْتَ للبريطانيين؟“. رد: ”على المستوى الشخصي دفعتُ ثمنًا غاليًا بسبب موقفي، وانتقلتُ من منفى لآخر أنا وأولادي الذين ليس لهم أيّ ذنب. كانت أيامًا مضطربة، لكني -رغم مرور كلِّ تلك السنين- ثابت على إيماني بأني لم أكن مخطئًا حين قاومتُهم. فالبريطانيون لم يأتوا ليحفظوا مجدنا، بل ليخدموا مصالحهم، كما هي عادتهم في كلِّ زمان ومكان“. قلتُ: ”لكنهم انتصروا عليك بسرعة في تلك الحرب الشهيرة، وأصبحوا يتغنون بها كأقصر حرب في التاريخ، هل كنتَ تتوقع مثل هذه النتيجة؟“. رد بانفعال: ”من الخطأ تسمية الحادثة بالحرب، كانت عدوانًا سافرًا على دولة مستقلة وحاكم له تأييد شعبي كبير. ولكن ما أود قوله الآن هو أنّ أسلافي ومن جاء بعدي من السلاطين، ظنوا أنّ البريطانيين حلفاء لهم، فمهّدوا لهم الطريق ليبسطوا نفوذهم. عندما حان وقت المواجهة، كان الميزان مختلًا لصالحهم، وهذه نتيجة منطقية للأمور“.
أحسستُ أنّ النقاش بيننا أخذ يسخن، فطلبتُ من سيف أن يسجله صوتيًّا حتى لا أفوّت كلمة قد تكون مهمّة، وأن يلتقط لنا صورًا تذكارية، لكن السيد اعتذر قائلا: ”لا داعي لذلك. فمصيري درسٌ بليغ وقاس لكلّ الأحرار الذي يرفضون السيطرة الأجنبية على أوطانهم، لكن ضميري مرتاح، وهذا هو المهم“. سألتُه: ”هل ترى أنّ العُمانيين كانوا سُذّجًا في تعاملهم السياسي مع القوى الأجنبية؟“. أجاب: ”ليس كلهم، ولكن بعضهم لم يدرك للأسف أنّ الوعود السياسية لا تُحفظ إلا بمقدار القوة التي تقف وراءها. كنا نحكم زنجبار، ولكن بدون استعداد حقيقي للحفاظ على السيادة، فضعُف موقفنا. والتدافع الاستعماري الغربي للسيطرة على أفريقيا ليس جديدًا. ففي عهد والدي السلطان برغش، استولى الألمان على مناطق البر الأفريقي التابعة لنا، بالتواطؤ مع الحكومة البريطانية (المفترض أنها صديقة لنا)، وعندما احتج الوالد بشدة على هذا الاستيلاء غير القانوني، أرسل الألمان خمس سفن حربية إلى زنجبار، وأمهلوه أربعًا وعشرين ساعة، إما أن يرضخ للأمر الواقع أو يقصفوه إلى أن يستسلم، ولم يكن أمامه خيار سوى الموافقة“. هنا دخل سيف إلى الحوار، وسأل السيدَ خالد: ”لو كان بإمكانك إعادة كتابة التاريخ، ماذا كنتَ ستفعل بشكل مختلف؟“، أجاب: ”كنتُ سأعمل على بناء تحالفات أعمق مع القوى الأخرى، ربما مع بعض الدول الإسلامية الكبرى، أو حتى تشكيل قوة عسكرية توازي البريطانيين. ولكن التاريخ لا يُعاد، وإنما يُتعلَّم منه. وأنا تعلمتُ الكثير، ودفعتُ الثمن من حالي ومالي. وما يؤلمني أنّ عائلتي دفعت الثمن معي دون جريرة اقترفتها“. شعرتُ برغبة شديدة في مواساته، لكنني وجدتُ نفسي أطرح بعفوية هذا السؤال: ”هل ترى أنّ زنجبار فقدَت هويتَها بسبب تلك الأحداث؟“، وبالعفوية نفسها أجاب: ”زنجبار ظلت زنجبار، بأهلها وتراثها، ولكن النفوذ العُماني تراجع فيها، بدليل أنكم تدخلونها الآن زائرين بغرض السياحة لا أكثر. والسؤال الذي لَطالما فكرتُ فيه: هل من المنطق أن يذهب كلّ شيء كأنه لم يكن؟! ربما كان ذلك حتميًا ولا مفر من قدر الله، وهذا ما نؤمن به، ونحن في العالم الآخر نرى ما لا ترون ونعلم ما لا تعلمون، ولكن ربما كان يمكن تفادي الانقلاب، لو كانت القرارات مختلفة“.
في هذه اللحظة، علا صوت أذان العشاء، فابتسم السلطان خالد وردّد الأذان مع المؤذن، ثم قال بصوت هادئ: ”على الأقل، لم تقدر القوى العظمى على محو صوت الإيمان من هذه الأرض، وهذا كان أحد المخططات“. سألته: ”سيدي كيف تنظر إلى ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم؟“ نظر إليّ نظرة عجيبة، هي خليط بين الحزن والكبرياء، ثم قال: ”لم يكن يومًا مشؤومًا فقط، بل كان لحظة فارقة في تاريخ زنجبار. حينما توليتُ الحكم، كنتُ أعلم أنّ بريطانيا لن تتسامح مع استقلالية قرارنا، لكنني لم أتصور أنّ الحرب ستكون بهذه السرعة والوحشية. كنتُ أظن أنّ لدينا فرصة للمقاومة. أعددنا بعض القوات، وأغلقنا الطرق المؤدية للقصر، لكن حين بدأت القذائف تتساقط، أدركنا أنّ البريطانيين لم يكونوا يريدون مجرد مفاوضات، بل كانوا يريدون حسم الأمر بشكل قاطع. القصف دمّر بيت الحكم وأجزاء كبيرة من بيت الساحل وبيت العجائب، وكانت الخسائر فادحة، ولم يكن أمامي خيار سوى البحث عن ملاذ آمن، حفاظًا على ما تبقى من أرواح الأبرياء الذين وقفوا معي ضد الهيمنة البريطانية“.
- ”وهكذا انتهى بك المطاف في القنصلية الألمانية؟“
- ”نعم، كان الخيار الوحيد المتاح في ذلك الوقت. لم يكن من الحكمة البقاء، وإلا لأريق مزيد من الدماء، وكان مصيري الاعتقال أو ما هو أسوأ. الألمان وفروا لي ملاذًا مؤقتًا، ولكن بعد ذلك بدأ نفيي من مكان إلى آخر، وكانت الرحلة طويلة ومؤلمة“.
- ”كيف ترى اليوم قرارك بعد هذه السنوات؟ هل كان بالإمكان التصرف بطريقة مختلفة؟“
- ”لو عاد الزمن، ربما كنتُ سأحاول التفاوض بشكل مختلف، أو إعداد دفاع أكثر قوة، لكن الظروف كانت شديدة التعقيد، والمصالح الدولية كانت أقوى من إرادة رجل واحد. ومع ذلك، أؤمن بأنّ الشعوب دائمًا تجد طريقها لاستعادة كرامتها، مهما طال الزمن“.
- ”هل تشعر بالحسرة على زنجبار؟ بعد أن ذهبَت عن العُمانيين؟!“
- ”زنجبار ستبقى دائمًا في قلبي. إنها أرض تحمل تاريخًا عظيمًا. وأفخر أنني كنتُ جزءًا من هذا التاريخ، وقد جعل منها جدي السيد سعيد بن سلطان عاصمةً هامةً، تتهافت إليها الدول الكبرى، كما إنّ إنجازات والدي السلطان برغش لا يمكن إنكارها. وكان لي شرف الدفاع عن سيادتها، ولو ليوم واحد فقط“.
- ”هل تسمح لي عندما أعود إلى عُمان أن أكتب عن لقائي بك هنا؟“
- ”وما المانع؟! لقد صرتُ جزءًا من التاريخ، ومن حقّ أيٍّ كان أن يكتب عني وعن أجدادي. ولكني أتمنى عليك أن تشير إلى حادثة تاريخية مهمة حدثت قبل ولادتي بعام، ولها ما بعدها، وستظهر يومًا ما عندما تُنشر الوثائق“.
- ”أي حادثة تقصد؟“
- ”في عام 1873، أبلغ الإنجليز أبي، عبر مبعوث بريطاني أثناء اجتماع مع كبار المسؤولين أنّ الأفارقة سينقلبون عليكم، إذا شعروا بأنّ البريطانيين هم حلفاؤهم وليس العُمانيين. كانت النبرة لا تخلو من تهديد لأبي السلطان برغش، وكانت الخطة واضحة، ولكنها للأسف لم تؤخذ على محمل الجد. وبعد مرور واحد وتسعين عامًا، أي في يناير 1964، نُفِّذ الانقلاب فعلًا كما تعلمون. عندما تطالعون الوثائق ستدركون أنّ ما أقوله ليس رأيًا، بل حقائق مدعومة بالأدلة. لقد طبخت الطبخة بنار هادئة“.
- ”سأنشر -إن شاء الله تعالى- ما تقوله حرفيّا، ونحن نتشوق لهذه الوثائق، حتى يكون الناس على بيّنة من الأمر“.
- ”رائع. هذا أمر يريحني مثلما أراحني مجرد البوح لك ولزميلك بما يعتمل في نفسي. وأود أن أشير إلى أنّ السلاطين كانوا على علم بما يجري، لكنهم للأسف يفتقرون إلى البصيرة والرؤية البعيدة. لم يتوقعوا أن ينقلب عليهم البريطانيون، كما حدث في عام 1964. لم يدركوا أنّ ما فعله البريطانيون في زنجبار قد يتكرر في أيّ مكان وفي أيّ زمان“.
- ”نعم. بدليل أنه تكرر كثيرًا في زماننا، وهناك قول شهير لرئيس عربي وُلِد بعد وفاتك بسنة واحدة، قال عندما تخلت عنه أمريكا: ”المتغطي بالأمريكان عريان“.
- ”من المؤلم أن يعرف الإنسان الحقيقة بعد فوات الأوان، أُضيف لمقولة هذا الرئيس أن المتغطي بالبريطانيين أيضًا عريان، وكذلك كلّ من يعتمد على الخارج على حساب شعبه“.
وجهنا -سيف وأنا- تحية إجلال وإكبار للسلطان خالد بن برغش، وقلنا له بلسان واحد: ”سيظل اسمك دومًا محفورًا في ذاكرة زنجبار وأهلها، ليس بوصفك مجرد سلطانٍ تولى العرش، بل كقائدٍ رفض الإملاءات الأجنبية وأصر على حماية سيادة وطنه“. ويبدو أنه ابتهج بهذا التقدير، فقد وضع يده على كتفي وقال وهو يبتسم بوقار: ”أشكرك يا أبا محمد“.
اندهشتُ من كونه يعرف اسمي، فسألتُه: هل تعرفني؟
”سلامتك زاهر. لو ما كنتُ أعرفك ما سافرتُ معك!“
هنا عاد لي وعيي، وانتبهتُ أنّ الذي وضع يده على كتفي وكلمني هو سيف وليس السيد خالد. سألتُه باستغراب: ”ألم تكن قبل قليل تحاور معي السيد خالد بن برغش؟“
”كم كان سيسعدني ذلك، لكنه مات منذ سنين طويلة، كما تعرف. كلّ ما في الأمر أنني شاهدتُك تنسلّ إلى المقبرة كالمسرنم، فتبعتُك. هيا، علينا العودة إلى الفندق الآن“.
عدنا إلى الفندق وكان فكري مشغولًا بخالد بن برغش، لأنه ظهر وكأنه في آخر حياته استسلم عندما كتب رسائل الاستعطاف للإنجليز (كما سبق وأن أشرتُ إلى ذلك)، هل تلك الرسائل تهز صورة البطل الذي قاوم الإنجليز؟ قد يخفت بعض الإعجاب، ولكن لا ينفي صلابة الرجل في شبابه، ثم إنّ الحادثة كلها تشير إلى نقطة هامة، هي أنّ الإنجليز وجّهوا رسالة من خلال تعاملهم مع خالد لمن خلفه، هي أنهم لن يتسامحوا مع من يقف ضدهم أبدًا.