أثير – مازن المقبالي
في أعالي جبال مسندم شمال سلطنة عُمان، حيث تتحدّى قسوة التضاريس شُحّ المياه، ما تزال الزراعة البعلية (المعتمدة على الأمطار) تُشكّل نمطًا زراعيًا فريدًا يعكس صمود الإنسان وتكَيُّفه مع بيئة جبلية قاسية.

وأكد خبير علم النباتات سيف بن عامر الحاتمي في حديثه لـ”أثير” أن هذا النمط الزراعي التقليدي يعتمد اعتمادًا كليًا على الأمطار الموسمية، مشيرًا إلى أنه يُمثّل نموذجًا للتوارث المعرفي بين الأجيال، القائم على الابتكار والخبرة المحلية المتراكمة.
وأوضح الحاتمي أن السكان، في ظل تضاريس جبلية وعرة وغياب مصادر المياه كالأفلاج والآبار، طوّروا أسلوبًا زراعيًا يُعرف محليًا بـ”الوعوب” وهي مدرّجات حجرية تُبنى يدويًا على سفوح الجبال. وتُصمَّم هذه المدرجات بعناية لاحتجاز مياه الأمطار وتجنّب تأثير السيول الجارفة، كما تُستخدم برك مطمورة لتخزين المياه لاستخدامها في سقي المزروعات والمواشي خلال فترات الجفاف.

وتُزرع في هذه المدرجات محاصيل تقليدية مثل القمح الميساني، الشعير المعروف محليًا بـ”الدورقي”، الشوفان أو “الديسر” المخصص للعلف، إضافة إلى أشجار التين. كما تتحول هذه الوعوب بعد موسم الأمطار إلى بيئة طبيعية غنية بالنباتات البرية النادرة التي لا تنمو إلا في مثل هذه الظروف، منها الزعيتمان الأزرق، والسعّاد، والبصيلو.

وبيّن الحاتمي أن بناء هذه المدرجات عملية شاقة تتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا، تبدأ بتهيئة الأرض بالحجارة والرمال، يليها نقل التربة الزراعية والسماد الطبيعي – غالبًا على ظهور الحمير – من مناطق بعيدة. وتُشيّد الجدران بعرض يقارب المتر وارتفاع يمنع دخول المواشي، باستخدام الحجارة والطين فقط، وفق طرق تقليدية دقيقة ومتوارثة.
ورغم التغيرات المناخية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة بعد عقد السبعينيات، من تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، إلى الهجرة المتزايدة نحو المدن، ما تزال بعض الوعوب قائمة تُمارَس فيها الزراعة البعلية، خصوصًا في منطقة “السيّ”.
وأكد الحاتمي أن أهمية هذه الزراعة تتجاوز الإنتاج الغذائي، إذ تُسهم في حماية التربة من الانجراف، والحد من الجريان السطحي، وتعزيز الترسيب، إلى جانب دورها البيئي والاجتماعي كرمز للتعاون المجتمعي والمعرفة الزراعية المتوارثة.
وعن دورة الزراعة البعلية، أوضح أنها تبدأ في نهاية الصيف بمرحلة تُعرف بـ”العمّار”، حيث يُرمّم المزارعون الجدران ويجهّزون الأرض لتلقي الأمطار. وبعد أولى الأمطار الغزيرة، تبدأ مرحلة “الهيس” أو الحراثة، التي تتبعها مرحلة “التبقيل” لتنقية الأرض من الأعشاب الضارة. وعند نضج السنابل وتحولها إلى اللون الذهبي، يبدأ الحصاد، الذي يُنفّذ غالبًا باستخدام أدوات يدوية تقليدية.

وفي نهاية الدورة الزراعية، تُفصل الحبوب عن التبن باستخدام طريقة “التذرية” التي تعتمد على الرياح، ثم تُخزّن الحبوب في أوانٍ فخارية تقليدية تُعرف محليًا بـ”الخابية” أو “الخرس”، وهي تصنع يدويًا في مسندم وتُثبّت داخل غرف “بيت القفل”، ما يوفر بيئة مثالية لحفظ المحصول بعيدًا عن الرطوبة والآفات.