أثير- زاهر بن حارث المحروقي
بعد عودتي من زيارتي الأولى لزنجبار في ديسمبر 2024م بفترة غير قصيرة، تلقيتُ رسالة واتسب من الصديق سالم بن محمد الخنجري:
“أخي زاهر.. إذا زرتَ زنجبار مرةً أخرى هناك مَعلمٌ تاريخيّ اسمه بيت الراس، ما زالت بعض أطلاله قائمة، وهو غير بعيد عن قصر بيت المتوني. أرجو أن تذهب إليه. كثيرون لا يعرفون بيت الراس، هناك من يعتقدُ أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّصه للشيخ العالِم ناصر بن جاعد الخروصي للتعليم، وهو الذي أسماه بهذا الاسم نسبة إلى [بيت الرأس] الكائن في العلياء بولاية العوابي في عُمان”.
الرسالة مشجِّعة ومحفزة لي لأهتم بالبحث عن بيت الراس هذا، خاصة أنها المرة الأولى التي أسمع فيها عنه، وقلتُ لنفسي: “سأجعل زيارته ضمن الأولويات في السفرة المقبلة لزنجبار بإذن الله”، وهو ما تحقّق بالفعل، والحمد لله. بعد الرسالة تواصلتُ مع بعض أقرباء الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، لكنّ معظم إجاباتهم كانت تشير إلى عدم صحة معلومة أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّص البيت للشيخ ناصر للتعليم، وإن لم يستنكرها البعض، إذ سبق وأن مرّت بهم. لكن نفسي كانت تحدّثني بضرورة البحث عن الموضوع وربط بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار ببعضهما البعض.
شددنا الرحال إلى زنجبار للمرة الثانية - أنا ورفيق رحلتي السابقة سيف المحروقي - يوم الجمعة 25 أبريل 2025م بعد أن تواصلنا مع مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، المعروف بـ“ود العم“، والشهير بالمقاطع الترويجية لزنجبار والتي يُنهيها دائمًا بصرخة: “صح”، وطلبنا منه أن يُدرج زيارة بيت الراس ضمن البرنامج، وهو ما تحقق لنا بالفعل يوم السبت 26 أبريل 2025م.
ونحن في الطريق من المدينة الحجرية إلى بيت الراس، كنتُ أفكّر في أهمية الحفاظ على بيوت بعض الشخصيات التاريخية البارزة، إذ إنّ الإهمال أدى إلى غياب معالمها، وفي أحيان أخرى أدى إلى عدم معرفة مواقعها، وهو في تصوري تفريط في ذاكرة الأمة؛ فهذه البيوت هي شواهد حية تُخلّد سيرة أصحابها وتُقرّب الأجيال من إرثهم الحضاري، وكان في ذهني المطرب العالمي فريدي ميركوري المولود في زنجبار في الخامس من سبتمبر 1946م والذي أصبح فيما بعد المغنّي الرئيسي لفرقة “الملكة” البريطانية الشهيرة، إذ تحوّل البيتُ الذي وُلد فيه في “بوستر” في حارة “شنجاني”، إلى متحف يضمّ تاريخه ومقتنياته، وفي المقابل دار في خاطري سؤالٌ طرحه عليّ الصديق مسعود بن عبد الله الريامي: هل بيت الشيخ أبي مسلم البهلاني ما زال موجودًا في زنجبار؟ إنه سؤالٌ مهمٌ حقًا، لكن إذا كان شخصٌ مثل مسعود يسألني أنا سؤالًا كهذا - وهو الخبير ببيوت المدينة الحجرية كلها - فهل هناك من سيعرف الإجابة أكثر منه؟!. أوضحتُ له أنني زرتُ قبر الشيخ البهلاني وهو معروفٌ في منطقة “مويمبي لادو” جنب مسجد الجمعية العربية، أما عن بيته فالأمر يحتاج إلى بحث، لكن ما يُتداول وليس هناك ما يؤكده، أنّه كان في منطقة ماليندي بالقرب من جامع الشوافع، وإنه لخطبٌ جلل حقًا أن يختفي بيت شخصية مهمة كأبي مسلم البهلاني.
للوصول إلى “بيت الراس” لا بد من الدخول إلى باحة مدرسة فنية ثانوية بُنيت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وأطلق عليها اسم مدرسة السيد خليفة الثانوية، ويبدو أنها حُوّلت فيما بعد إلى مدرسة أو معهد لتكوين المعلمين، لكن للوهلة الأولى سقط من ذهني الربطُ بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار؛ فما بقي من أطلال البيت تدلّ على أنه كان بيتًا عملاقًا لا يمكن لشخص مثل الشيخ ناصر - وهو العالِم الزاهد - أن يعيش فيه.
في هذا المكان كانت لي أول تجربة تسجيل مقطع مرئي، تساءلتُ فيه عن العلاقة بين هذا البيت وبيت الراس في العلياء في ولاية العوابي. صعدنا إلى البيت سالكين السّلالم الحجريّة التي تؤدّي إلى الأعلى، وفي منتصف درجات السّلم وقفتُ فجأة لأتأمّل جمال ما حولي. سألتُ سيف: ترى هل يحتاج الشيخ ناصر إلى بيت ضخم كهذا؟ ولو فرضنا أنه بيته، فكم مرّة صعد ونزل هذه السلالم في رحلة ذهابه وإيابه إلى مسجده؟ وكم من طالب علم صعد هذه الدّرجات يومًا ما بحثًا عن إجابة لمسألة استعصى عليه حلّها؟، بل كيف بُنيت هذه الدّرجات أصلًا؟ وكيف استصلحت الأراضي الزّراعيّة المحيطة به؟ وهل صلى الشيخ ناصر في هذا المسجد القريب من البيت؟!
من المفارقات أننا في الوقت الذي كنّا نبحث فيه عن تاريخ بيت الراس في زنجبار، كان المعرض الدولي للكتاب في مسقط يدشن كتاب “تاريخ زنجبار المصور (1800 - 1964)”، للأستاذ رياض بن عبد الله بن سعيد البوسعيدي، الصادر عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، وهو ربيب القصور السلطانية في زنجبار، قدّم فيه معلومات قيّمة وصورًا عن أطلال البيت؛ مّا ينفي الربط بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار إلا في تشابه الاسم فقط.
أهم المعلومات الواردة في الكتاب تقول إنه في عام 1847م وفي سن 56 عامًا، تزوج السيد سعيد بن سلطان الأميرة الفارسية شهرزاد ابنة الأمير أرش ميرزا، وحفيدة شاه بلاد فارس. كانت شابة جميلة ومفعمة بالحيوية تعيش حياة باذخة، انتقلت إلى زنجبار في عام 1849م برفقة حاشية كبيرة مكونة من 150 مرافقًا، بمن فيهم فرسان وخيولهم، وكانت بارعة في استخدام السيوف والرماية وتحمل دائمًا خنجرًا معها. يبدو أنّ حياة بيت المتوني لم تعجبها، خاصة أنّ معها حاشية كبيرة، فبدأ السيد سعيد بن سلطان في بناء قصر لها في بيت الراس، وجلب من بلاد فارس مصممين وحرفيين وبنائين، وبنى لها حمامات مزخرفة على الطراز الفارسي في منطقة “كيديتشي”، على بُعد بضع كيلو مترات من المدينة الحجرية، ما تزال أطلالها باقية حتى اللحظة.
أثار سلوك هذه الأميرة المتعالي الاستياء بين العرب، الذين لم يعهدوا هذا النوع من الحياة، وكذلك أثارت قدرًا كبيرًا من الدهشة والتعجب بين سيدات العائلة المالكة، وهو ما أشار إليه الشيخ سعيد المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”، ورغم أنّ السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس لها ولحاشيتها، إلا أنها أصبحت أكثر إسرافًا وتبذيرًا، وتزايدت مطالبُها، فغضب السلطان منها وطلقها، فعادت إلى بلادها دون أن يكون لها أيُّ ذرية من السيد سعيد.
توفي السيد سعيد قبل اكتمال بناء قصر بيت الراس، ولم يرغب خليفتُه السلطان ماجد في إكماله، فأرجع جميع البنائين الفرس إلى بلادهم، وأثناء بناء سكة حديد بوبوبو، هُدمت جدران القصر غير المكتمل واستُخدمت الحجارة لتعبيد مسار السكة الحديدية. لم يتبق من المبنى الآن سوى جزء صغير منه، وهو الشرفة العملاقة التي تتميّز بأقواسها العالية والدرجات التي تؤدي إلى أحد جوانبها، وقد بُني القصر باستخدام الحجر المرجاني، وهو مادة البناء التقليدية الشائعة في زنجبار، نظرًا لتوفرها في الجزيرة.
كانت تلك قصة بيت الراس الذي نغادره الآن لنكمل صورة حياة الأميرة الفارسية من خلال زيارتنا للحمامات الفارسية. تقع هذه الحمامات في منطقة كيديتشي (Kidichi)، شمال غرب زنجبار، كما سبقت الإشارة، على بُعد كيلومترات شرق المدينة الحجرية، بالقرب من مزارع التوابل الشهيرة، وكما مرَّ سابقًا فقد بناها السيد سعيد بن سلطان هدية لزوجته الفارسية شهرزاد، وحتى الآن احتفظت تلك الحمامات بطابعها القديم؛ مّا يدلّ على متانة البناء، وتتميّز بتصميمها المستوحى من العمارة الفارسية التقليدية، وقد تجوّل بنا المرشد السياحي في غرف البخار والماء الساخن والبارد، وشرح لنا عن نظام التهوية الذي يُعدُّ في ذلك الزمان متطورًا، وقال إنّ الأميرة كانت تَقْدِم من المدينة الحجرية يوميًّا فوق الحصان لتستمتع بالبخار والماء الساخن، وفي السابق كان بيت العجائب - في المدينة الحجرية - يُرى من هنا بوضوح (مشيرًا إلى زاوية معينة)، نظرًا لارتفاعها عن مستوى سطح البحر.
ونحن ننهي الزيارة، كان سيف متشككًا من قدرة الأميرة الحضور يوميَّا من المدينة الحجرية إلى هذا المكان البعيد نوعًا ما، لكن في كلِّ الأحوال ذهبَت الأميرة وتركت تلك الآثار مع ذكرى سيئة، حسب الشيخ المغيري الذي يقول إنها أثارت حفيظة العرب بتصرفاتها.
لكن هل انتهت قصة الأميرة الفارسية بطلاقها من السيد سعيد وعودتِها إلى بلادها؟! لا. يقول الأستاذ رياض البوسعيدي في كتابه “تاريخ زنجبار المصور”: “بعد عودتها إلى بلاد فارس، وبعد بضع سنوات، عندما ذهب السيد سعيد لمحاربة الفرس في هرمز، رأى زوجته السابقة مرةً أخرى، لكنها كانت على حصانها تقود وحدة من الجيش الفارسي ضده. لم ينتصر السيد سعيد في المعركة، وعاد إلى عُمان”.