فضاءات

الإنسان في سجنه بين هايدغر وهان

محمد حسن - باحث سوري

محمد حسن - باحث سوري

لأن الوجود سؤالٌ مستمّر، لم تتوقف يومًا طاقة الإنسان المبدع عن ابتكار الأسئلة دون أن يكون معنيًا حتى بإيجاد أجوبة فكيف بالمبدع الذي يتصدى للاثنتين، يتلمّسُ جدار الوجود بيدٍ مرتجفة وقلب لا يتوقف عن الدهشة، باحثًا عن أصل رحيق لا يُسمّى عن تلك اللمحة الخفية التي تربطه بالحقيقة الأولى، بالحضور الأصلي، ربمّا ما قبل اللغة وما قبل الدولة وما قبل الفلسفة. مارتن هايدغر كان أبرز من أشهر تلك الصرخة الصامتة في صحراء القرن العشرين، حين أعلن أن مأساة الإنسان الحديث تكمن في ذلك النسيان العميق الذي يلتهم روحه رويدًا رويدًا: نسيان الكينونة. هايدغر لم يكن يبحث عن خلاصٍ للإنسان بقدر ما كان شاعرًا يرثي تلك المسافة التي نمت بين الكائن-الإنسان وبين العالم، حينما تحول العالم إلى موضوع ينبغي إخضاعه والسيطرة عليه، بين الوجود الحقيقي وبين الحياة اليومية التي استُهلكت في أدوات وتقنيات جعلت من الكائن شيء ومجرد مورد في آلة كبرى.

غدا نسيان الكينونة هو الثمن الذي دفعه الإنسان مقابل هذا الانتشاء المؤقت بالسيطرة. ولم يكن غريبًا أن تكون التقنية، في نهاية الأمر، هي الوجه الأخير لهذا النسيان. لم يعُد الإنسان يمضي في الزمن، بل صار الزمن يمضي فوقه مسرعًا دون أن يمر به، يدهسه وهو لا يدري، يحوله إلى ترس تافه في سلسلة إنتاج لا تعرف سوى الأرقام والسرعة. فبحسب شيخنا الفارابي ”كل موجود في ذاته فذاته له، وكل موجود في آلة، أيًا كانت، فذاته لغيره“. لقد كفّ الزمن أن يكون جسد آخر داخل جسد الإنسان، وأصبح يتحدد زمنه بمفارقة، الآلة التي ابتدعها وصار عبدًا لها وحلّ فينا زمنها الذي ما زال يتوعدنا بالإبادة والموت محل زمن الإنسان زمن الشعر والحب والحرية والإبداع.

هايدغر لم يطرح فلسفته ليؤسس نظامًا جديدًا ولا ليمتدح سلطة، بل ليعلن صرخته على الملأ أمام السؤال القديم الذي كان يظنه الجميع قد مات مع أفلاطون، ذلك السؤال الذي ما نزال نسمع صدى أناته في كهف الطبيعة كنداء خافت: لماذا الوجود وليس العدم؟ كان هايدغر يعلم أن التقنية لا تقتل الإنسان حين تجعله عبدًا لها فقط، بل حينما تجعله ينسى نفسه وهو يخدمها طائعًا، متفانيًا، حتى ليحسبها قدره الطبيعي. الإنسان، في نظره، لم يعد يفكّر، ولم يعد يسأل، بل ينفّذ بشكل أصم ما تفرضه عليه تلك الآلة الكبيرة في الماضي والرقمية اليوم. فكما أن جوهر الشجرة ليس شجرة في حد ذاته، وكذلك جوهر التكنولوجيا ليس شيئًا تكنولوجيًا، فالتكنولوجيا بحسب هايدغر هي وسيلة للكشف، فهي تجسد سبيلًا محددًا للكشف عن العالم، كشفًا يتحكم به البشر بالواقع، فبينما عد الإغريق القدماء ”صنع“ شيء ما بمثابة " مساعدة على الوجود" فإن التكنولوجيا الحديثة هي ”إكراه على الوجود“ لأنها تجسد سبيل محدد للكشف عن العالم كمادة خام بإطار تكنولوجي، تجعل البشر ينظرون إلى أنفسهم كمعطى خام في سوق الموارد البشرية.

لم يتوقف الزمن عند هايدغر، بل دُفِع بالإنسان الحديث إلى هاوية أخرى. يبدو أن ما نعانيه اليوم أشد خفاءً وأكثر فتنة. حيث الشفافية صارت فضيلة مزيفة، وحيث الإنسان يُحصي أنفاسه بعدد المتابعين وعدد الرسائل وعدد الصور. وقف بيونغ-تشول هان ليكتب فصلًا جديدًا في الرواية من حيث أنهاها هايدغر. فلم يعُد الإنسان منفيًا عن الوجود فقط، بل صار منفيًا عن نفسه طواعيةً، بلا سلاسل ولا جدران، بل عبر رغبة مخفية أن يكون مرئيًا، معروفًا، أن يحبّه العالم الافتراضي، غارقًا في بحرٍ من البيانات، من الصور، من الشفافية الكاذبة. لم يَعُد يسأل عن الحقيقة، بل عن عدد متابعيه، عن أثر صورته في الآخرين، عن مكانته في خريطةٍ لا يعرف مَن يرسمها ولا إلى أين تأخذه. فالزمن لم يعد زمن الحقيقة، بل زمن الصور والضوضاء، حيث الإنسان صار مجرد نقطة في خريطة بيانات. يتوهّم الحرية بينما هو يدور في دوائر يحدّدها له الآخرون، في عالم تحكمه الخوارزميات وتغيب عنه الأفكار، تحدد فضاءاته الأسواق وتتشظى فيه الفلسفة. زمن لم يعد ينظر الإنسان فيه إلى السماء، بل جل ما يفعله أن يحدّق في شاشة من زجاج خاوٍ.

بيونغ-تشول هان، هذا الصوت الجديد الخارج من رحم العدم الحديث، لم يكتب عزاء لهذا الإنسان، بل وصف حاله كما يصف الطبيب علّةً ميؤوسًا منها: إنسان اليوم ينهار ليس لأن هناك من يستبد به أولًا، بل لأنه هو من يستبد بنفسه، نافيًا نفسه باستمرار، في مسعاه الأعمى كي يُثبت نفسه، أن يكون منتِجًا، جذابًا، مرئيًا. عندما يدخل اللعبة يصبح جزءًا من قواعدها لا حاجة أن يُفرضَ عليه شيءٌ من الخارج، بل هو من يفرض على نفسه أن يكون آلةً مثالية في مصنعٍ لا تتوقف بكرات آلاته عن الدوران، فالنجاح لم يعد حلمًا يسعى إليه الإنسان بشغف بل عبء يثقل كاهل صاحبه، والتعب تم اختصاره إلى غربة الروح والنفس عن محيطها وجهلها لذلك التغريب، كأن الذات في نعيم الجهل صارت الجلاد والضحية. تتلاشى الكينونة أمام تجارب أداء على مسرح العبث، وتدمغ الروح بدمغة علامة تجارية. ينحسر وجود الإنسان ويتحول إلى صورة في جهاز ما. فالإنسان الحديث لا يحتاج إلى سلاسل كي نقيده، يكفي أن نعطيه شاشة، وسيتكفّل هو بالباقي.

صارت أحلام الإنسان ورغباته، تفكيره، وقته، وأولوياته تعجن كما يعجن الخبز، توضع تلك العجينة على ولائم الآلة-الزمن وينسل منها إنسان-زمنٌ تابع، وذات مشوهة ومنهكة، تعبق برائحة الإرهاق الذاتي، خاضعة لقوانين السوق دون أن تُدرِك حتى أنها خاضعة. ولأن الإنسان موجود في آلة فذاته لغيره، يحيا زمن الآخرين، الصورة، الخوارزمية، الشاشة، الآلة، أي أداة في يد الآخرين-الآلة، يصنعون بها أزمنتهم ويفرضونها عليه. فميدان الثورة اليوم أن يثور الإنسان على نفسه لخلق زمنه الإبداعي، زمن الطبيعة الذي تتلاقى فيه حرية الإنسان ولحظات إبداعه فيصبح الإنسان هو زمانه، متحرراً من قيود الآلة-الزمن. يكسر صورتها النمطية في كيفية تخيل الإنسان نفسه وواجباته وفي أي حلبة سباق سيزج بنفسه كل صباح ليكون أكثر فاعلية وفق شروط الآلة-الزمن، أكثر قدرة على تلبية حاجات لا تنتهي، أكثر استعداداً لإرضاء قيده الزمني.

لو اجتمع هايدغر وبيونغ-تشول هان في غرفة واحدة اليوم، لنسجا خيوط مرثيةٍ تفوق مرثية أبي البقاء الرندي في ضياع الأندلس، أنها مرثية ضياع الإنسان الحديث في متاهات لا يدري عنها شيئًا بالرغم من أن مفاتيح الانعتاق منها تختبئ في داخله الصامت، ربما يتوقف يومًا عن الجري ويصغي بسمعه إلى صمت الطبيعة، يرفع عينيه عن شاشة صارت حدود بوصاتها حدود عالمه السلبي، ويستعيد لحظات السكون والتأمل لمقاومة إيقاع الحياة المتسارع، والابتعاد عن هوس الشفافية كتسليع للذات واستعادة الخصوصية والغموض كقيمة إنسانية ضرورية، وتقبّل الإنسان لنفسه في ضعفه وعدم فعاليته كجزء من الطبيعة البشرية، وعدم اختزال ذاته في أرقام وإنجازات، والتفاعل مع الفن والجمال الذي يحرر حواسنا وينير الضوء داخل أنفسنا فتهتدي فراشات الطبيعة في الخارج إلينا، حتى تتلاشى الحدود بين الداخل والخارج، تتفجر كينونة الإنسان في الكينونة الأم، يرى بعين البصر والبصيرة ما يجري حوله وقبل كل ذلك ما يجري داخله، فالإنسان هو نفسه مفتاح لأبواب الزمن ومعناه.

Your Page Title