أخبار

الشاهد والشهيد: أنس الشريف الصوت الذي أطفأه القصف وأشعل ذاكرة العالم

أنس الشريف

أثير - علاء شمالي

في غزة، حيث تُحسب الأعمار بعدد الحروب، وُلد أنس الشريف. لم يأتِ إلى الدنيا وفي يده كاميرا، لكنه وُلد في قلب مشهد لا ينتهي من الدخان، والحجارة المبعثرة، وأصوات المذياع التي تعلن أسماء الشهداء مع فجر كل يوم.

كبر الفتى في مخيم جباليا وهو يعرف أن لكل بيت حكاية مع القصف، ولكل شارع ذكرى شهيد. درس الإذاعة والتلفزيون، لكن ما ينتظره لم يكن مقعدًا في استوديو أو مكتبًا مكيّفًا؛ كان ينتظره الشارع الموحل، وأصوات الانفجارات، والكلمات التي يجب أن تُقال للعالم مهما كان الثمن.

لم يكن أنس مراسلًا بالمعنى البارد للكلمة، بل كان رسولًا بين غزة والعالم. كان يعرف أن الكاميرا قد تُقتله، لكنه كان يرى في العدسة سلاحًا وحيدًا يستطيع كسر الجدار السميك من الصمت. تسلّق أسطح البيوت، بحث عن إشارة إنترنت في زوايا المستشفيات، وتجوّل بين الأحياء المدمّرة، ليحمل صورة طفل يصرخ جوعًا أو أم تبحث عن رغيف خبز بين الركام.

الاحتلال لم يخفِ كرهه له. لاحقوه بالتحريض، شوّهوا اسمه، اتهموه بكل ما يبرر قتله، ثم جاءوا في وضح النهار ليحذفوا صوته من الهواء. مساء الأحد، قصفت طائراتهم خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء، فغاب أنس، ومعه ثلاثة من زملائه، تاركين الميكروفونات والكاميرات معلّقة في الفراغ.

قبل ساعات من رحيله، ظهر على الشاشة يتحدث عن أطفال يموتون ببطء من الجوع. لم يكن يعرف أن صورته التالية ستُعرض في نشرة الأخبار، لكن هذه المرة بلا صوت، وبعنوان يختصر كل شيء: “استشهد أنس الشريف”.

برحيله، لم تخسر غزة صحفيًا فقط، بل فقدت شاهدًا حمل حكايتها على كتفيه، وجعل من صوته جسرًا بين أزقة المخيم وعيون العالم. بقيت تقاريره في الأرشيف، لكنها بالنسبة لغزة ليست مجرد مواد إعلامية، بل شظايا من روحها التي تحاول أن تبقى حية.

أصبح أنس الشريف شهيدًا، لكنه كان شاهدًا على مشاهد الإبادة، وجوع الأطفال، وأمهات يفتشن بين الركام عن فتات الخبز، ونازحين يجرّون ما تبقى من حياتهم على طرق موحلة تحت المطر والقصف، وأجساد الأبرياء الممددة في الممرات الباردة للمستشفيات، وصوت البيوت وهي تنهار حجرًا بعد حجر، وصمت العالم الذي كان يمرّ على كل ذلك وكأنه مشهد عابر.

Your Page Title